بدا واضحاً أن جوبا وفي إطار صراعها مع السودان وسعيها لتسجيل نقاط ضد الخرطوم اضطرت للجوء إلى ما يُعرف بدبلوماسية اقتفاء الأثر (الإستيكة)، وهي في أوجز تعريف لها دبلوماسية تقوم على مسح كل آثار الخط في حراكه الدبلوماسي بما قد يحرزه من نجاحات أو تأثير على الآخرين يجذبهم إلى صفه، عن طريق التحرك خلفه مباشرة خطوة بخطوة وحزية بحزية في محو تلك الآثار. ففي إطار التحرك الدبلوماسي الأخير للسودان في الميدان الإفريقي لوضع الأمور واضحة أمام القادة الأفارقة بشأن النزاع بين الخرطوموجوبا، توجّه عدد من المسئولين السودانيين لعدد من بلدان القارة الإفريقية، حاملين رسائل من الرئيس السوداني لقادة تلك الدول لطرح وجهة النظر السودانية باعتبارها وجهة نظر عادلة. قاد هذا التحرك كلٌ من نائبيّ الرئيس، السيد طه، والدكتور والحاج آدم، والدكتور نافع مساعد الرئيس، حيث أثمرت تلك الجولات نتائج ايجابية جيّدة حتى بدا لجوبا أن هذا الحراك الدبلوماسي السوداني يكاد يُحدِث أثراً ايجابياً لمصلحة السودان في حين أنها لم تستطع القيام بذلك الحراك فسارعت على الفور بإقتفاء أثر الدبلوماسية السودانية في محاولة يائسة منها لمسح آثار الخرطوم، أو على الأقل زعزعة قناعات القادة الأفارقة أو تحييدها. وقد قام وفد برئاسة أمين عام الحركة باقان أموم بجولة افريقية أعقبت جولة النائبَين السودانيين للتسويق للموقف الجنوبي. ونحن نرى هنا أنَّ الأمر متروك في النهاية لعقيدة وقناعة القادة الأفارقة سياسياً، ومدى بُعد نظرهم وسلامة المنطق السياسي لكل طرف من الطرفين، غير أنه ومع كل ذلك إن من المؤكد أن هنالك نقاط ومؤشرات يتفوّق فيها السودان على جنوب السودان. فالمؤشر الأول أن الدبلوماسية السودانية ترتكز على قوة سياسية قديمة ومتينة للغاية، حيث من المعروف أن السودان ومنذ استقلاله في العام 1956 ظل يشكل أهمية جيوسياسية لا يختلف عليها إثنان، فقد كان من مؤسسيّ منظمة الوحدة الإفريقية، والتي تطورت لاحقاً إلى الاتحاد الإفريقي، ولعب دوراً مفصلياً في حلحلة الكثير من نزاعات القارة، وما يزال يفعل، ولهذا فإن القادة الأفارقة يعتبِرون السودان نقطة متقدمة جداً تمثل جسر هام بالنسبة لهم إلى الشرق وإلى العالم العربي بحكم موقعه الجغرافي المتميز. كما أن معظم الدول الإفريقية تراهن على مستقبل القارة باعتبار أن السودان كسلة لغذاء العالم يمكن أن يلعب دوراً في هذا المستقبل بما لا يستطيع غيره أن يفعل، ولهذا فإن من الصعب جداً أن يستهين القادة الأفارقة بالدور السوداني والإمكانات الاقتصادية لهذا البلد، أو أن يضعوا دولة جنوب السودان في كفة موازية مع السودان، فالبون شاسع بين الدولتين والمقارنة صعبة وكلنا رأينا كيف أن قضية المحكمة الجنائية الدولية التي عوّلت عليها الدول الغربية والولايات المتحدة واعتبروها مجرد نزهة استطاع القادة الأفارقة في موقف نضالي نادر أن يجعلوها قضتهم الأساسية، وأن يقرِّروا عدم التعاون مع المحكمة الجنائية دعماً لموقف السودان رغم كثافة الضغوط الواقعة عليهم، وما قد يترتب علي هذا الموقف. المؤشر الثاني أن القادة الأفارقة وسواء أعربوا عن ذلك أم لا، ينظرون بشيء من الإعجاب لتجربة السودان النازعة لاستقلال القرار، وهي ميزة ليست سهلة وتمثل واحدة من أكثر الأمور التي تداعب خيالهم يتطلعون لاتخاذ ذات المواقف السودانية وإن حكمتهم بعض الظروف والمعطيات، ولهذا تبدو دبلوماسية اقتفاء الأثر بالنسبة للدولة الجنوبية مهمّة مستحيلة. المؤشر الثالث فإن من المعروف أن قضايا النزاعات الحدودية محسومة أفريقياً منذ نشأت منظمة الوحدة الإفريقية، وذلك بأن تظل كل الحدود السياسية التي تركها الاستعمار كما هي، لأنّ من شأن تغييرها أن يدفع جميع دول القارة للدخول في نزاعات حدودية متطاولة ومعقدة لا تنتهي. وهذه النقطة تحديداً تثير مخاوف القادة الأفارقة، ويبدو أنهم غير راغبين في ترسيخ سابقة جديدة في هذه النزاعات الحدودية تقود إلى زعزعة استقرار هذه القارة، وقيام الحروب وتدخل مجلس الأمن، وهي كلها أمور ليست لصالح أمن القارة. وعلى ذلك فإن جوبا تجهد نفسها في دبلوماسية خاسرة.