ترتبط زيارة أديس أبابا دائماً بفكرة الحوارات المتنوعة أكثر من أن تكون لدولة أفريقية ناهضة من ثبات تاريخي عميق. فأديس أبابا كمقر للاتحاد الأفريقي تعتبر مركزاً مهماً للقاءات يومية تقريباً بين اختصاصات من عوالم مختلفة، أفريقية وغير أفريقية، وهى إزاء الصراعات الأفريقية الدولية نفسها أصبحت مركزاً للتنسيق، بأكثر ما كانت مركزاً للمقاومة أيام نزعة التحرير الوطني، ومن هنا باتت أخبار التدخلات في هذه المنطقة الأفريقية أو تلك... كما أصبح منح الصك الأفريقي من الاتحاد لهذه الدولة الكبرى، أو تلك مبعثه اللقاءات في أديس أبابا. وقد جرى ذلك على ليبيا والكونغو والسودان ومالي كما يجري على غيره، وبالمثل باتت أخبار النفوذ الاقتصادي، خاصة من قبل الصين أو الاتحاد الأوروبي أو جنوب أفريقيا، هي مجال الحوارات الحالية. وقد يكون كل ذلك تعبيراً تقليدياً عن أخبار آنية جارية، ولكنها أيضاً تعتبر مركزاً أساسياً لقرون الاستشعار، لمن يرغب في معرفة اتجاه الرياح، أو إدارة مصالحه وفق رؤية معمقة لطبيعة المصالح الأخرى التي تتحرك على سطح القارة بشكل مركزي أو قطري. وهذا العام هو الذكرى الخمسون للاحتفال بقيام منظمة الوحدة الأفريقية، ومن هنا يعج مقر الاتحاد الأفريقي بالأنشطة الاحتفالية، وعلى رأسها استمرار تدشين مقر جديد هائل الحجم والدلالة، والذي انتهت من تسليمه الصين الشعبية من نحو أربعين طابقاً، وفى شكل العلبة التقليدية لمبنى الأممالمتحدة، دون رغبة في إشارات خاصة للمعمار الصيني التقليدي. وضمن هذه الاحتفاليات كان الاجتماع الذي حَضَرتهُ بين مجموعة من الاستشاريين حول مجالات الاهتمام بحقوق الإنسان الأفريقي وذكريات المظالم التي تعرض لها. وتحاول إثيوبيا بالطبع أن تستفيد من هذا الزخم الاحتفالي ليكون نصيبها منه مقترناً برغبة الصين في إظهار منجزاتها الأفريقية، وفي المقدمة المساهمة في الاحتفال بالذكرى الثانية لتدشين بناء سد النهضة العظيم "كأعظم سدود القارة، والقرن"، بل وثمة احتفال آخر بانطلاق مشروع خط حديدي عظيم الشأن أيضاً يمتد إلى جيبوتي، ويقضي على خضوع إثيوبيا لما تسمية "بالابتزاز" الأريتري، باعتبار الخط تجديداً للمشروع الفرنسي القديم بأيادٍ صينية وإثيوبية، ومن ثم يمكن تحرير تجارة إثيوبيا إلى الخارج، بل وإن امتداداته إلى كينيا وجنوب السودان ستجعل من إثيوبيا المحاصرة جغرافياً ذات شأن على أكثر من بحر ومحيط! هذا فضلاً عن الامتداد للمصالح المتنوعة أيضاً بمشاركة البرازيل وتركيا في مراحل من خط السكك الحديدية إلى جيبوتي. لعل هذا هو ما جعل المثقفين الإثيوبيين يتحدثون عن ذلك الوفد الحزبي الصيني الكبير الذي حضر المؤتمر التاسع لحزب "الثورة الشعبية الديمقراطية" الإثيوبي في مارس 2013، والذي اعتبرته القيادة الإثيوبية الجديدة تدشيناً لها بدورها لنقل الأضواء نسبياً من الرئيس السابق ميليس زيناوي إلى الرئيس الجديد "هيلا مريام ديسالن" الذي يتحرك بصعوبة في هذا الاتجاه بالطبع. وقد بدت لي الإدارة الإثيوبية الجديدة أكثر حرصاً على طمأنة مختلف الجيران على مشروعاتها للاستقرار الداخلي نفسه. فمختلف التصريحات الاحتفالية بمشروع "سد النهضة" على سبيل المثال مقرونة بطمأنة دول حوض النيل بأنه لا صحة لأي أضرار تلحق بهم، خاصة السودان ومصر من جراء إقامة المشروع، وأن نية التعاون في التنمية المشتركة متوافرة عند الجانب الإثيوبي. ويشعر المرء بأنهم متجهون الآن حتى بالاضطرار للتهدئة لكسب طمأنة المستثمرين أيضاً، مثل الصين أو الهند أو البرازيل الذين يريدون كاقتصادات كبيرة الاطمئنان على مناطق النفوذ الأخرى.. وقد بدا لي ذلك، سواء في المناقشات، أو في اهتمام وسائل الإعلام بأخبار تطورات العلاقة بين السودان الشمالي والجنوبي، بل والاهتمام بأخبار التوجه للتهدئة مع "المتمردين" في شمال السودان، خاصة في مناطق التوتر الثلاث (جنوب كردفان- النيل الأزرق- منطقة أبيي).. وهو اهتمام بالتفاصيل تفتقده وسائل الإعلام العربية على سبيل المثال بدلاً من المشاركة في أخبار النزاع. ومن يقترب من التجمعات الأفريقية هذه الفترة يستطيع أن يلمس القلق الأفريقي المتصاعد ليس كالعادة تجاه النفوذ الصيني وحده، بل من محاولات اختطاف مهام الاتحاد الأفريقي، والمنظمات الإقليمية في القارة عموماً، أو بالنسبة لمواقع حيوية فيها، بدءاً مما حدث في ليبيا، ومروراً بأحداث الكونغو أو مالي مؤخراً. وقد شدت خطط أمين عام الأممالمتحدة في رسائله أو مساعيه الأخيرة، انتباه الكثيرين بشأن تشكيل قوات دولية نعرف مسبقاً من يشكلها ويقودها، وانتهاء بالإشارات إلى الحق الدولي في التدخل ضد السيادة الوطنية.. بما يتجاوز به حتى السيادة الجماعية للاتحاد الأفريقي أو الجامعة العربية وغيرهما... وكان آخر ما وصلنا أثناء لقاء أديس أبابا تصاعد النية للتدخل الدولي في الكونغو بتعيين أمين عام الأممالمتحدة مبعوثاً خاصاً له في منطقة البحيرات الكبرى. ولولا أنها تلك السيدة المعروفة بعلاقاتها بقضايا حقوق الإنسان وباستقلاليتها الشخصية وهي "مارى روبنسون" لاعتبرنا أن اجتماع الأمين العام مع الرئيس الرواندي "بول كاجامي"، والمعروف بمشروعاته الطموحة مع المصالح الدولية في المنطقة ضمن الخطة "الدولية" المعروفة للتدخل باسم الأممالمتحدة في أكثر من منطقة بالقارة، ومنها منطقة البحيرات الكبرى الغنية بالثروات. وقد يؤدي القلق على دور الاتحاد الأفريقي، إلى قلق فرعي آخر من التطور السلبي في أوضاع دول القارة الكبرى التي كانت تبدو حامية لهذا الدور، ولو بقدر من الشراكة مع التحركات الدولية. من ذلك ما تحدث به مثقفون من جنوب أفريقيا حول افتقاد زوما ل"إمكانيات السيطرة على اتجاه المصالح في البلاد لمصلحة من كانوا يتوقعون منه إجراءات الاستقرار الاجتماعي ومصالح الأغلبية الأفريقية، بينما راح يسعى فقط لضمان الاستقرار السياسي عبر النفوذ التقليدي لحزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" وحليفه الشيوعي، بينما يعانى "مؤتمر العمال" انقساماً خطيراً بشأن هذا الاتجاه في السلطة، ما يضعف قوة جنوب أفريقيا كنموذج في القارة. وبالمثل يُشار إلى الموقف في نيجيريا بعد امتداد "التمردات الصحراوية" إليها، وارتفاع طلب "الدور التدخلي" للدولة على الدور السياسي الاجتماعي لبلد كبير بحجم نيجيريا. وقد شملت نشر التعليقات الأفريقية مصر نفسها مع تحليلات لافتة في التقارير الأفريقية عن "الأمن والسلام". ومما نشر مؤخراً على المستوى الأفريقي نجد (معهد الدراسات الأمنية في أديس وبريتوريا)، الذي ألمح إلى تصاعد السلفيين حتى في مقابل النفوذ السياسي للإخوان المسلمين. وبقى التساؤل عن إمكان رد فعل الأوسع دينياً إزاء السلفيين في القارة عنه لمصلحة "الإخوان المسلمين"، والذي يتصورونه ذا طابع سياسي في الدائرة المصرية بأكبر من توقع تأثيره خلافاً لتراث السلفية في القارة. المصدر: الاتحاد الاماراتية 16/4/2013م