في قرية هبيلا كناري 17 كيلومترا شرقي مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور تجمع العشرات من نساء القرية العائدات من معسكرات النازحين، يرتدين زيهن المزركش ويرقصن ويغنين علي إيقاع الطبول والنحاس التي قطعت مع زغاريد أخريات صمت الجبال والسهول الممتدة في الأفق.. لم يكن هذا الكرنفال الذي زينه عشرات الفرسان بجلابيبهم البيضاء الناصعة, ابتهاجا بانهمار المطر الذي يخاصم دارفور معظم أيام السنة ويملأ جنبات أوديته بالمياه في موسم الخريف فقط.. بل كان احتفالا بالأمل في استقرار قادم تمثلت إحدي صوره في افتتاح عدد من المنشآت الخدمية التي مولتها جامعة الدول العربية التي تشارك إلي جانب80 دولة في مؤتمر التنمية من أجل السلام الذي يعقد في القاهرة برئاسة مصر وتركيا تحت مظلة المؤتمر الإسلامي بهدف توفير ملياري دولار لتنمية وإعمار دارفور. 93 كيلو مترا هي حصيلة المسافات التي قطعتها الأهرام برا إضافة إلي آلاف الأميال جوا, متنقلة بين عواصم ولايات إقليم دارفور الثلاث التي تزيد مساحتها علي نصف مساحة مصر, وبين بعض القري النموذجية التي أعيد تأهيلها في إطار سياسة العودة الطوعية للنازحين واللاجئين البالغ عددهم بحسب تقديرات الأممالمتحدة2.7 مليون شخص من أصل نحو6 ملايين نسمة هم عدد سكان الإقليم. في الأعوام السابقة لم تكن الأوضاع الأمنية في الإقليم تسمح بمخاطرة من هذا النوع, غير أن كل الشواهد في المناطق التي غطتها الأهرام علي الأرض, تظهر أن مستوي العنف آخذ في الانحسار, باستثناء انتهاكات تستهدف عمال الإغاثة وبعثة اليوناميد القوة المختلطة من الأممالمتحدة والاتحاد الافريقي, التي قتل22 من أفرادها في أنحاء الإقليم منذ تسلمت مهامها في مطلع عام2008 في أكمنة واختطاف سيارات وحوادث عنف أخري. ففي مدن الجنينةونيالاوالفاشرعواصم ولايات غرب وجنوب وشمال دارفور علي الترتيب, بدت الشوارع والأسواق بعمارتها البسيطة تعج بكل مظاهر الحياة الطبيعية.. الميادين الرئيسية مزروعة بلافتات انتخابية مختلفة الحجم تظهر صورا للرئيس السوداني مكتوبا عليها فليكن اختيارك القوي الأمين.. الدراجات النارية صينية الصنع التوك توك والمعروفة محليا ب راكاشا تزاحم التاكسيات الصغيرة ماركة هيونداي.. المقاهي تنتشر علي قارعة الطريق, حركة البيع والشراء تتجه إلي مستواها المعتاد قبل النزاع الذي بدأ في عام2003 بين الحكومة السودانية والمتمردين وأودي بحياة300 ألف شخص وفقا لتقديرات الأممالمتحدة وعشرة آلاف قتيل بحسب الخرطوم. الهدوء عاد نسبيا, هي العبارة المتداولة في رواية السكان بالمناطق التي غطتها جولة الأهرام يقول حمدان محمد, الطبيب بالمركز الطبي في قرية مراية جنقي60 كيلو مترا غربي نيالا, الوضع الأمني استتب من العام الماضي, بعد نجاح الشرطة المحلية في فرض هيبتها وتسيير قوة اليوناميد لدوريات منتظمة في المنطقة. ويعزز ابراهيم جمباري رئيس بعثة اليوناميد ووزير خارجية نيجيريا الأسبق الذي التقته الأهرام في الفاشر, جزئيا من هذه الرواية بقوله: إن قوة اليوناميد نجحت في الانتشار بنسبة80% من مستهدف قوامه26 ألف جندي, مشيرا إلي أن اليوناميد انتقلت من مرحلة حفظ الأمن وتقديم المساعدات الإنسانية إلي المساهمة في تقديم الخدمات الأساسية. وعلي الرغم من استمرار نزوح آلاف السكان بسبب الاشتباكات المتقطعة في وسط وشمال الإقليم, بين القوات الموالية للحكومة وبين حركات التمرد بحسب منظمات دولية عاملة في الاقليم, فإن تقارير سودانية رسمية تتحدث عن عودة أكثر من مليون نازح ولاجئ إلي622 قرية, وانسياب حركة المساعدات الإنسانية, وتنامي حجم مشاريع التعمير العربية والدولية, وارتفاع عدد منظمات الغوث العاملة بدارفور من23 منظمة عام2003 إلي250 منظمة عام2008, وتوزيع المساعدات في مناطق الحركات الموقعة علي اتفاق ابوجا, وانخفاض مؤشر الأحداث الأمنية التي كانت تستهدف قوافل الإغاثة. لكن قيودا تفرضها الحكومة والمتمردون علي حركة اليوناميد بحسب مسئول بالأممالمتحدة في إدارة عمليات حفظ السلام, تمنع من إجراء إحصاء دقيق للاشتباكات المسلحة بين حركات التمرد والجيش السوداني المدعوم بميليشيات محلية. غير أن المفوض العام للعون الإنساني في السودان حسبو محمد عبدالرحمن, يستدل علي استقرار الأوضاع بالإقليم, بالعودة الطوعية للنازحين ومشاركة العائدين الكبيرة في الزراعة, ودعا المانحين إلي الإقتداء بسياسة إعادة تأهيل القري التي انتهجتها الأمانة العامة للجامعة العربية والدول العربية ومن بينها مصر, واصفا هذه السياسة بالنموذج العملي الذي يجب أن يحتذي به. وبلغت تكلفة المشروعات العربية الممولة من الأمانة العامة للجامعة العربية والدول والمنظمات والصناديق العربية, في دارفور خلال العام الماضي67 مليون دولار بواقع تأهيل95 قرية و245 مركزا خدميا و79 مركزا صحيا و95 محطة مياه إلي جانب المساكن ومولدات الكهرباء وطواحين الغلال. الطالب عبدالرحمن أبوبكر بريمة20 عاما من سكان قرية هبيلا كناري يتحدث بنبرة حادة وبلكنة عربية فصحي عن الإنشاءات التي أقامتها الجامعة العربية في القرية قائلا: إنه رغم تواضع هذه الإنشاءات المصنوعة من الطوب الأحمر معماريا وماديا فإنها وبالنظر إلي البيئة المحلية لقري دارفور وبؤس الحياة في معسكرات النزوح واللجوء تعد تحولا في نمط الحياة بالقرية, إذ وفرت المياه الصالحة للشرب, والكهرباء, ومركزا صحيا, ومركزا للشرطة, ومدرسة تعليم أساسي وناديا إجتماعيا وثقافيا, ومسجدا, ومساكن لبعض الأسر العائدة. ويعيش سكان قري دارفور التي يقطنها75% من إجمالي سكان الإقليم, في قيات وكرانك وهي بيوت من القش تتخذ أشكالا هرمية ودائرية, في أوضاع بدائية تفتقر لأي خدمات أساسية. وتمثل مشروعات التعمير العربية33% من حجم نظيرتها الدولية الممولة من دول أهمها الصين وتركيا, إلا أنها لا تعدو أن تكون مجرد بداية حسبما يقول الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسي, الذي يشدد علي أن الجامعة لن تترك دارفور وحدها وسوف تستمر في المشاركة مع دول عربية ومنظمات إقليمية ودولية في عملية الدعم الكامل للإنطلاقة السودانية نحو مستقبل جديد علي قاعدة الاستقرار وانهاء الخلافات. ويصف نهار عثمان مدير مكتب رئيس السلطة الإنتقالية في دارفور, المشروعات التي أنشأتها الجامعة العربية ب البسيطة بالنظر إلي حجمها المادي, لكن تبقي دلالتها الرمزية والمعنوية عميقة حسب قوله. ويثمن عثمان دور مصر, معتبرا إياه الأهم في دارفور بالنظر إلي العلاقات التاريخية التي تربط أرض الكنانة بالإقليم, ويطالب القاهرة بمزيد من الجهود والتحركات علي مسارات البناء والتعمير ومحادثات السلام, مشيرا إلي أن الاهتمام المصري والعربي بدارفور يدفع بالفعل إلي حلحلة التعقيدات السياسية. وتشارك مصر التي تجري اتصالات ببعض حركات التمرد في دارفور لدعم عملية السلام في قوة اليوناميد ب2325 عنصر جيش و211 عنصر شرطة و12 مراقبا عسكريا. وبلغ حجم المساعدات الإنسانية التي قدمتها مصر لدارفور خلال عام52008 ملايين جنيه مصري, وقامت وزارة الصحة المصرية في شهر أبريل الماضي بإيفاد38 طبيبا مصريا تم توزيعهم علي المستشفيات الرئيسية بعواصم دارفور الثلاث, إضافة إلي إرسال قافلة طبية ثانية بدأت عملها في15 سبتمبر الماضي ولمدة شهرين, فيما قام المجتمع المدني بإيفاد قافلة طبية من15 طبيبا وكميات من الأدوية والتجهيزات. وتعهدت مصر بحفر40 بئرا بتكلفة4 ملايين جنيه مصري علي عدة مراحل تم حفر10 منها في المرحلة الأولي, فيما يجري تنفيذ المرحلة الثانية بواقع10 آبار أخري. المصدر: الاهرام 18/3/2010