نوهت أمس بمقال للدكتورة استفني بزويك الأمريكية صدر في كتاب عن كردفان في عام 1998م . تناولت فيه نشأة الإدارة الممركزة لدينكا نقوك في كردفان خلال القرن العشرين تحت سلاطينها كول أروب ودينق ماجوك ( ت 1969م ) . وقالت فيه أن هذه الإدارة قد اختص بها الدينكا نقوك دون سائر الدينكا الذين عاشوا في مجتمعات " اللا دولة " أي تلك التي لا يقوم بها حاكم له شوكة علي الناس وإنما أمرهم طليق عفوي . وخلصت إلي أن تركيز السلطان في النقوك تم في علاقتهم بالانجليز والمسيرية معاً . ونبه المقال إلي مسالة لا اعتقد أن هناك من تناولها في نزاع أبيي وخطابها . فالنقوك هي الجماعة الجنوبية الوحيدة التي بقيت في خلطة مع الشمال وحدث هذا في وقت كانت سياسة الانجليز المركزية هي المباعدة ما بين العرب والأفارقة علي طول خط التماس بين الشمال والجنوب فيما عرف بسياسة المناطق المقفولة . وابلغ تعبير لها هي سياسة الجنوب التي وضعها هارولد مكمايكل في 1930م فرتبت مؤسسياً لإدارة الجنوب بمعزل عن الشمال لفصله في يوم قريب لينضم إلي احد أقطار شرق إفريقيا . وكانت سياسة المناطق المقفولة غاية في الفظاظة بما يجعل المرء يستغرب كيف استثنت الدينكا نقوك . ارتكب الانجليز خلالها وحشية ملحوظة . مثلاً ، وهم يقومون الحد الفاصل بين دارفور وغرب بحر الغزال فمتى قرروا انك عربي أو مسلم أخذوك من موطنك في بحر الغزال عنوة إلي دارفور في طريق للألم حفيت منه أقدام المهجرين وعانوا الجوع والعطش . والعكس صحيح متى ما قرروا انك إفريقي ، فمكانك عندهم بحر الغزال وأنفك راغم . وذروة هذه التراجيدية حرق بلدة كافيكنجي السوق الذي اختلط العرب والأفارقة عقوداً . ودائماً ما خطر في صلاحية أهل غرب بحر الغزال وجنوب دارفور ( التي صورها كل من روبرت كلونز وطالبه الدكتور أحمد عوض سكينجا بدقة بالغة ) لفلم وثائقي مزلزل عن فساد الانجليز وقلة عقلهم منذ رأيت صورة لسوق كافياكانجي يزوره اللهب الاستعماري .. لم يكن الانجليز غافلين عن شذوذ وضع الدينكا النقوك ومجافاته لسياسة الفصل العنصري . وكان أول عرض للنقوك بالهجرة إلي بحر الغزال في 1928م . فألح الانجليز علي سلطانهم كول أروب جد فرانسيس دينق ، كما جاء في تقرير للمخابرات البريطانية ، " أن يترك داره في كردفان وان يحرك أهله إلي جنوب بحر العرب ليدار شأنه علي خطوط ثقافية جنوبية " . ونصصت العبارة لأنها تدل علي الانجليز حين كانوا يريدون تهجير النقوك إلي الجنوب قصدوا تهجير الناس لا الأرض ، فبحر العرب عند الانجليز خط احمر جنوبه أفارقة وشماله عرب والبحر هو الفاصل الطبيعي المثالي . لم يقبل سلطان كوال بالعرض الانجليزي واختار أن يبقي في كردفان . ويستغرب المرء ما يزال كيف وافقه الانجليز ، ولكن تفسير الدكتورة بزويك لموقف كوال هام ، فقالت أنه علم علم اليقين بأنه متى " تقهقر جنوباً اضطر للتنازل عن سلطانه السياسي . فلكي يحافظ علي منزلته كناظر عموم النقوك تحت الانجليز كان عليه أن يقبل بدمج النقوك تحت المسيرية " . وجاء في كتاب فرانسيس دينق عن والده أن جده كان أسر إلي زعيم من الدينكا أنه رفض أن ينضم إليهم في بحر الغزال وتمسك بكردفان لأنه " إذا جئتكم الآن وتوجهت إلي واو سيخرب العرب الأشياء من وراء ظهري بل سيقولون أن أرضي هذه هي أرضهم " . ومن غير المفهوم أن يقول فرانسيس دينق في الصفحة التي سبقت ذلك إن جده أراد تجسير ما بين الشمال والجنوب وهلم جرا . ولم تكن مخاوف سلطان كول بغير أساس . فقد نزع الانجليز من سلطانه فرعين من الدينكا هما التويك والروينق في 1930م وفوجاهما للجنوب بشراً بغير أرض . واحتج سلطان كوال علي ذلك . ويبدو أن تمسك سلاطين النقوك بكردفان لم يكن كله عن التجسير وما أدراك . كانوا في الواضح يعلمون أنهم يقيمون في دار عارية ترجع لأصحابها المسيرية متى ما استغنوا عن كردفان . لقد جاءت بزويك . المتندكة بأكثر من الدينكا . بزاوية سياسية الجنوب والمناطق المقفولة للنظر في مسالة أبيي . وإرهاصات النظر من هذه الزاوية يشير إلي أننا قد نقطع دابر الشك بالبحث . والفورة ألف . نقلاً عن صحيفة الخرطوم 20/11/2013