بالطبع لا يمكن القول أن مسئولية المؤتمر الوطني حيال الحوار الوطني تنتهي عند طرحه للوثيقة التاريخية المعروفة، ولا أيضاً عند حدود جلوسه الى القوى السياسية المختلفة واستخلاص أفضل ما أمكن التوصل إليه وإنفاذه. هي مسئولية مناط بها أن تضع عتبة تاريخية جديدة كلية صالحة لمرور كافة القوى السياسية والاجتماعية السودانية عليها وتحملها لمسئولياتها الوطنية فى المستقبل القريب والبعيد. ولكن بالمقابل أيضاً فإن أحد لن يكون عليه أن يلقي باللائمة على الوطني إذا ما أصرت بعض القوى -بصرف النظر عن دوافعها- على الإحجام عن الدخول فى مضمار الحوار؛ إذ الملاحظ الآن أنه وبرغم الحراك الكبير الدائر فى الساحة السياسة السودانية إلا أن هنالك بعض القوى تتلاعب (بعقارب الساعة) تأخيراً وتقديماً لرهانات بعينها تراهن عليها! فمن جهة أولى فإن هناك بعض القوى فهمت الدعوة للحوار والشروع فى تأسيس مشروع وطني ناجز وكأنه دعوة للبدء من الصفر، إما بإسقاط كامل كل الحقبة السياسية السابقة واعتبارها كأن لم تكن، وهؤلاء هم الذين يطالبون الآن بحكومة انتقالية وتفكيك دولة الوطني لصالح دولة الوطن، ويعتبرون الدعوة للحوار فى حد ذاتها بمثابة إقرار بفشل، أو حسرة على ماضي أو إقرار بأخطاء. وخطورة هذا الاعتقاد أنه اعتقاد ينزع أي رصيد حكم وطني سابق وهو ما يجعل الأمور تبدو وكأنها بداية جديدة ليس من المعقول –بعد خمس عقود أو تزيد من نشأة هذا البلد فى ظل الحكم الوطني– أن يتم تجاوز كل ذلك بجرة قلم! كذلك فإن مثل هذا الاعتقاد يعيق جهود الحوار لأنه يضع كل التجربة السودانية وراء الراهن الحالي وهو ما لا يتيح استشراف المستقبل. ومن جهة ثانية فإن هناك أيضاً من اعتبر مجرد العودة لحوار وطني شامل، سانحة لإملاء الشروط، وهو أمر مجاف تماماً للمنطق السياسي؛ فالشروط لا تصلح لإدارة حوار حول مائدة مستديرة لأن المطلوب هو التوافق على رؤى توضع كأساس للمرحلة المقبلة، ومن الطبيعي أن هذه الرؤى تستصحب فيما تستصحب بعض مزايا الواقع الماثل وتتعامل ببصيرة سياسية أمام ما هو ماثل. ومن جهة ثالثة فإن هناك أيضاً -للأسف الشديد- من لا يزالون يتمسكون بالماضي ويريدون من الوطني أن يستسلم تماماً ويرفع يديه إلى أعلى حتى يقوموا بعملية وضع الأصفاد فى يديه ويتلون عليه حقوقه! إن من المؤلم فى هذا الصدد أن أحزاباً متواضعة الشعبية قليلة التجربة قليلة الخبرة بإدارة الشأن الوطني تقف الآن بعيداً على الرصيف تراهن على إسقاط الحكومة. وهؤلاء هم من يفكرون فى إرجاع عقارب الساعة لصبيحة الثلاثين من يونيو 1989 وهو أمر بالطبع أبعد ما يكون عن التصور السياسي الذكي والواقعي. ومن جهة رابعة فإن هناك من هم تواقون لإخلاء الساحة السياسية (تماماً) من الحزب الحاكم بحيث تكفيه تجربته الماضية وعليه الآن ترك (الجمل بما حمل) لمن كانوا بعيدين عن القافلة! المشكلة فى مثل هذه النماذج التى سقناها أنها لم تعِ بعد ما مقصد الوطني وكيف سيدير هذا الأمر بحيث تنظف الساحة السياسية من الخصومات وحالة الاحتقان غير المبررة، والغريب أن ما يفعله الوطني الآن -بكامل إرادته ونيته- أنه يدعوا الجميع لوضع أساس متين متراضى عليه ومتفق على قواعده لتحوُّل ديمقراطي قائم على أسس وطنية قوية، فالديمقراطية القائمة على (الحريات المطلقة) أو الأطروحات المتسكعة على طرقات اللامبالاة، أو تلك المهوِّمة فى خيالات رومانسية مجنحة لا تصلح فى بلد كالسودان متعدد الرؤى والسحنات وتواق لتداول إنساني وسلمي للسلطة. أمنياتنا الحارة أن يفهم قادة القوى السياسية فحوى وطبيعة الدعوة، فكما أن فهم السؤال نصف الإجابة فإن فهم الوثيقة، نصف الاستجابة.