في السنوات الأخيرة، تبنى البعض سرد "إفريقيا الصاعدة" وسخر منه البعض . لكن الجميع يتفقون على ما يسميه المهندسون الاجتماعيون "الشمولية"، الدرجة التي يتقاسم عندها أعضاء المجتمع ازدهاره ورخاءه . ومعها كما يقول المؤيدون سوف تنهض إفريقيا، ومن دونها كما يقول المتشككون لن تتمكن من النهوض . إن مستقبل إفريقيا بهذه البساطة حق . فعندما يغيب الشعور بوجود عقد اجتماعي عادل الإيمان بالتقدم الذي يشترك فيه الجميع تميل الاقتصادات إلى عدم الاستقرار والانهيار . في كتابه "ثمن الحضارة"، يقول رجل الاقتصاد جيفري ساكس "إن أي مجتمع يأمل في تحقيق الازدهار والرخاء لا يستطيع أن يترك أجزاءً كبيرة من سكانه عالقة في فخ الفقر" . وعلى هذه الخلفية، يأتي تقرير جديد صادر عن جمعية التنمية الدولية في نيروبي قراءة واقعية للحال . ويخلص التقرير إلى أن نهضة إفريقيا خاصة شرق إفريقيا لن تتحقق أبداً من دون إحراز تقدم اقتصادي في مختلف قطاعات المجتمع . وظاهرياً، يبدو أداء شرق إفريقيا جيداً . فمعدلات النمو الاقتصادي السنوي تدور في المتوسط حول 6%، وتشهد التجارة والاستثمار الأجنبي ارتفاعاً ملحوظاً . وتتمتع بعض البلدان، مثل أوغنداوتنزانيا، بثروات ضخمة من موارد الطاقة . وفي كينيا، صاحبة الاقتصاد الأكبر في المنطقة، يعمل التمويل والصناعات الخدمية الجديدة على دفع النمو، وهو تطور اقتصادي بالغ الأهمية . لكن بنظرة أكثر عمقاً لا نملك إلا أن نشعر بالقلق . ففي مختلف أنحاء المنطقة يُعَد الأكثر ثراءً المستفيد الأعظم من النمو الاقتصادي، في حين تزداد أحوال الفقراء سوءاً على سوء . وتنبئنا الأرقام بجزء من القصة . إن أعلى 10% ثراءً في شرق إفريقيا يبلغ متوسط دخلهم السنوي نحو 2100 دولار، وهم يميلون إلى الإقامة في المدن والعمل في الصناعة أو الخدمات المهنية، ويرسلون أبناءهم إلى المدارس الخاصة . ووفقاً للتقرير فإن شرق إفريقيا من منظورهم تشبه أمريكا الوسطى أو إحدى الدول الأوروبية ذات الدخل المتوسط المنخفض . وعلى النقيض من ذلك فإن أقل 40% دخلاً في شرق إفريقيا يبلغ متوسط دخلهم 225 دولاراً سنوياً، وهو مستوى أدنى كثيراً من عتبة الدولار وربع الدولار يومياً التي يستخدمها خبراء التنمية لتعريف الفقر المدقع . وهؤلاء الأشد فقراً أغلبهم في المناطق الريفية، وهم يعيشون بلا مرافق أساسية مثل الطاقة والمياه النظيفة والصرف الصحي . وتتراوح احتمالات وفاة أطفالهم قبل بلوغ سن الخامسة بين 40% إلى 80% . وتتقاطع بعض المشكلات مع فجوة الفقر المدقع . فالتقزم بين الأطفال في ارتفاع في كل مكان، فيؤثر في 42% من أطفال المنطقة دون سن الخامسة الذين يبلغ عددهم 24 مليون طفل . وقد حققت كل بلدان شرق إفريقيا معدل التحاق بالمدارس الابتدائية بلغ 100%، ولكن 28% فقط من تلاميذ المدارس الابتدائية في أوغندا و49% في كينيا يلتحقون بالمدارس الثانوية . وفي رواندا وأوغندا يجتاز 88% من طلاب المدارس الثانوية امتحاناتهم الوطنية؛ وفي تنزانياوكينيا تنخفض النسبة إلى أقل من 30% . وليس من المستغرب أن تشير دراسة مسح أجرتها مؤسسة "أفروباروميتر" لعام 2012 إلى تآكل حاد في ثقة عامة الناس . ففي تنزانيا، وَصَف 40% من الذين شملهم الاستطلاع الظروف الاقتصادية الحالية بأنها "سيئة للغاية" . وكان هذا نفس رأي ثلثي من شملهم الاستطلاع في أوغندا، بارتفاع حاد من 42% في عام 2010 . وفي كينيا، وصف 84% من البالغين الاقتصاد بأنه إما "سيئ للغاية" أو "سيئ إلى حد ما"، وهو ارتفاع هائل بنحو 30 نقطة مئوية عن 2005 . لكن ماذا تفعل الحكومات في مواجهة مثل هذه الحقائق؟ بادئ ذي بدء، يتعين على الزعماء السياسيين في شرق إفريقيا أن ينحوا جانباً ميلهم إلى ما وصفه المشاركون في إعداد تقرير جمعية التنمية الدولية ب"الرشوة الاجتماعية" تسليم وعد التقدم ولكن من دون نتائج . ولنتأمل هنا قطاع الزراعة، الذي يمثل معظم الاقتصاد الحقيقي في المنطقة ويوظف الأغلبية العظمى من سكان شرق إفريقيا . يعاني هذا القطاع رغم ذلك ركوداً، حيث لم تتجاوز معدلات النمو نصف تلك التي تحققت بالفعل في بقية قطاعات الاقتصاد . ورغم أن متوسط أعمار سكان شرق إفريقيا يتراوح بين 51 إلى 91 سنة، فإن متوسط عمر المزارعين يبلغ نحو 60 عاماً . وهذه ليست بالوصفة المناسبة لمستقبل مشرق . ومن أكثر من ناحية، لابد من إرساء أسس بناء مجتمعات أكثر شمولاً مجتمعات أكثر ثراء ومستقرة سياسياً في نهاية المطاف في الريف . فالسياسات التي تمد الخدمات الاجتماعية وتخلق حوافز اقتصادية وتجارية جديدة للمجتمعات الريفية تشكل ضرورة أساسية . وكذا أمر تنمية البنية الأساسية، سواء في الأقاليم أو من حيث ربط المنطقة بشكل أكثر عموماً . وفي نواح كثيرة، تشكل الصين نموذجاً يحتذى . قال دنشغ شياو بينغ عندما بدأ تفكيك الاقتصاد الموجه المختل في البلاد في أوائل ثمانينات القرن العشرين: "إن تحقيق الثراء شيء مجيد" . ولكنه كان حريصاً على ضمان وصول مَد النمو الصاعد في الصين إلى كل القوارب، على الأقل خلال قيادته للبلاد . وفي شرق إفريقيا، لا تزال قوارب كثيرة للغاية عالقة في الرمال . المصدر: الخليج الاماراتية 11/3/2014م