من المآثر المهمة التي تركها عالم الطبيعيات المعروف تشارلز داروين في كتابه أصل الأنواع القول إن "ليس الأقوى من كل نوع هو الذي يبقى ولا الأذكى، بل هو الأكثر تاقلماً مع التغيير" . هذه المأثرة تتماهى مع ما ذهبت إليه أمريكا في عدم تأقلمها مع المحيط الدولي خاصةً بعد انتهاء الحرب الباردة وأنها اخطأت في الاعتماد على سياسة القوة،كذلك في مجال الاختيار بين اللجوء إلى الحرب وبين متطلبات القواعد القانونية في إدارة العلاقات الدولية، فاختارت الحرب وجعلت منها حرباً عالمية ثالثة، إلا أنها لم تنجح مطلقاً لا في التكيف مع متطلبات التغيير في البيئة الدولية، ولا في إيجاد حل لأي من التهديدات الكبرى التي تواجهها . وهو ما يُعيدنا أيضاً إلى صحة ما ذهب إليه نابليون بونابرت بعد أن عجزت قواته عن تحقيق نصر نهائي في أوروبا بالقول "إنني أعجب أشدّ العجب من عجز القوة في الإتيان بنصر حاسم" . وما ذهب إليه أيضاً مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر بالتأكيد على "أن القوة قد تقهر العالم لكنها لا تضفي الشرعيّة على نفسها" . لذا كان انتهاج الرئيس باراك أوباما استراتيجية بديلة أكثر توازناً من استراتيجية بوش الابن في المناطق الاستراتيجية الكبرى أمراً ملحاً وضرورياً وصحيحاً لمعالجة فشل التمرُد الجيوسياسي الذي أحدثته سياسة الإدارة الأمريكية السابقة في أغلب مناطق العالم، ولكنهُ لحد الآن ظل انتهاجاً خجولاً ومتردداً كما أنه ليس حاسماً وجاداً مثلما تتطلبه المرحلة . التمرُد الجيوسياسي يبدو واضحاً في الكثير من مناطق العالم المختلفة، فاذا كانت بعض دول الشرق الأوسط يمكن استيعابها عسكرياً وهو الافتراض الذي أثبت عقمه في تجربتيْ أفغانستانوالعراق فإن دولاً شرق أوسطية وأخرى أوراسية لا يمكن استيعابها عسكرياً بشكل مطلق، لذلك كانت التجربة العراقية على مدى السنوات التي أعقبت الاحتلال، قد مثلت المعين المادي والفلسفي لخطوات التغيير اللاحقة في النظم الشرق أوسطية على قاعدة الفوضى الأمريكية . إذ يمكن القول إن العراق قد تحول إلى بوابة للتغيير في الشرق الأوسط ولكن بطريقة مختلفة عن منهج التغيير الذي جرت عليه الكثير من الدول في العالم . وفي ظل الظروف الاقتصادية المرافقة لعملية التغيير كان لا بد للولايات المتحدة من العزوف عن فكرة التحرك في الكثير من المناطق الاستراتيجية بمفردها وقد شكل هذا التحول النوعي أمراً لائقاً على الأقل لدولة تتربع على عرش العالم بتفرد متميز، كما أنه مكّنها من تحقيق بعض طموحاتها الدولية وأبقاها في قمة الهرم العالمي دون منازع جاد، لكنها عادت اليوم إلى اختزال المباحثات حول حل القضية الفلسطينية لوحدها، ودون إشراك المجتمع الدولي تم انكفأت عن ذلك بحجة التمرد الصهيوني، إذ لو تم إخضاع المباحثات الصهيونية - الفلسطينية إلى الإطار الأممي مثلما يجري في القضية السورية لما تمكنت "إسرائيل" من التمادي في سلوكها اللاأخلاقي . ثم وهي في قيادة التحرك الأممي إزاء نظم الشرق الأوسط دعتْ إلى إشراك شكلي لدول الاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية، وكأنما هي لم تعد تسترشد بهدي السياسة الأحادية التي اتبعها الرئيس السابق، وهو التحول اللافت في إدارة الديمقراطيين لكنه تحول مخادع وغير جاد لاسيما إذا نظرنا إلى الفوضى التي تديرها في العراق وكذلك الحال في معظم الدول العربية وفي أوكرانيا التي هي قلب أوراسيا . فالمغامرة الفاشلة في العراق تم استبدالها عن طريق ثلاثية التغيير من (الداخل بقوى الداخل المدعوم من الخارج) وهي سياسة بائسة أفضتْ إلى فوضى في الوطن العربي لا يمكن السيطرة عليها في الأجل القريب،كذلك الحال فيما أحدثته في أوكرانيا وما آلت إليه الأوضاع من تمزق للدولة التي كانت متماسكة قبل أن تطالها الولاياتالمتحدة بتحركاتها العبثية . لقد أظهرت الأزمات الأمريكية سواء في الشرق الأوسط أو في أوكرانيا خوفاً أمريكياً من المستقبل، الخوف المتماهي مع فشلهم في العراقوأفغانستان ومستقبل إيران النووي والعجز عن حل مشكلة الصراع العربي "الإسرائيلي" ووضع حد لنشاط "القاعدة" . الخوف الأمريكي يمكن ملاحظته في موضوع أساس، هو الاندفاع صوب محاصرة روسيا في مخطط استراتيجي لا يمكن إلا أن تكون نتائجه بائسة على مستوى الاستقرار في العالم . من هنا تأتي المسؤولية الجنائية الأمريكية عن ما يحصل من فوضى وعدم استقرار لايمكن تجاوزها وفق أبسط القواعد القانونية، وعليه ينبغي المطالبة بعقد جلسة استثنائية في مجلس الأمن لمساءلة الولاياتالمتحدة عن ما آل إليه الوضع في العراق وفي أفغانستان وفي الشرق الأوسط عموماً وعما سيؤول إليه في أوكرانيا، وتلك مسؤولية لاينبغي التراجع عن أدائها في ظل الفوضى التي تحدثها الولاياتالمتحدة في العالم . المصدر: الخليج الاماراتية 2/6/2014