يكشف الرصد المستمر والمتجدد لمعطيات الواقع السياسي الراهن في السودان، في ظل حالة الاستقطاب السياسي الحادة التي نجمت عن تباين تقييم معسكري الحكم والمعارضة على الساحة السودانية لنتيجة الانتخابات، أن المرحلة الحالية تعتبر من أخطر المراحل السياسية التي عرفها السودان، عبر تعاقب الحقب والأزمنة، منذ الاستقلال حتى الآن. إن القراءة الواقعية للمشهد السياسي السوداني بتعدد صوره تشف عن انقسام واضح في الصف الوطني، على مستوى القوى الحزبية ومنظمات المجتمع المدني، وهو انقسام مرتبط أولا بالخلافات التي نشأت قبيل انطلاق العملية الانتخابية، وثانيا بتلك الخلافات المتصلة بنتائجها. ان هذا الانقسام السياسي في الصف الوطني بالسودان، يأتي هذه المرة وسط تحديات بالغة الخطورة، اذ إن الساحة السياسية مقبلة على اجراء استفتاء تقرير المصير في يناير 2011، ليختار أهل جنوب السودان ما بين الاستمرار في «سودان واحد»، أو انشاء دولة مستقلة للجنوب. كما ان قضية دارفور تحف بها الآن تحديات لا تقل خطورة عن تلك المرتسمة في أفق المشهد السياسي بجنوب السودان. ازاء هذا الوضع الذي تتلاحق مشاهده يوميا، يلحظ المراقب للشأن السوداني أن هنالك قلقا متصاعدا في أوساط نخب السياسة والفكر حول كيفية مجابهة حالة «التصدع السياسي» التي نجمت عن «خلافات مرحلة الانتخابات». وهذا القلق ترتسم ملامحه في الكثير من التصريحات والمقالات، خصوصا في بعض المواقع الالكترونية السودانية، التي تعيد التذكير بخطورة تحديات المرحلة الراهنة في السودان. ان من بين المآلات التي أفضت اليها «التجربة الانتخابية» وسط مقاطعة من قبل عدة أحزاب يتصدرها حزب الأمة وهو الحزب الذي كان رئيسه السيد الصادق المهدي في منصب رئيس الوزراء في يونيو 1989، توقيت وصول «الانقاذ» الى السلطة في السودان،نقول ان من بين هذه المآلات ظهور واقع صارت فيه فرص الحوار بين القوى المعارضة الفاعلة، من جهة وحزب «المؤتمر الوطني» من جهة أخرى، مهددة الى حد كبير. ذلك ان المسار الذي مضت فيه التجربة السياسية السودانية خلال الأعوام الأخيرة، محفوفة بالتطلع لانجاز «تحول ديمقراطي» متوافق عليه، قد تجمد السير فيه، الى حين، وهو امر ارتبط برفض العديد من القوى السياسية المعارضة لنتيجة الانتخابات. فبالاضافة الى حزب الأمة الذي قرر قبل ساعات معدودة من انطلاق الانتخابات، عدم خوض هذا الاستحقاق الانتخابي معلنا عدة تحفظات حول شروطه ل «حرية ونزاهة الانتخابات»، فقد اعلن حزبان لهما وزنهما، هما «الاتحادي الديمقراطي الأصل» بقيادة السيد محمد عثمان الميرغني و«المؤتمر الشعبي» - الشريك سابقا في سلطة الانقاذ الوطني - بقيادة الدكتور حسن الترابي أنهما يعتبران - وفقا لرؤيتيهما - بأن الانتخابات «لم تعبر عن خيارات الشعب السوداني». ان حديثنا عن مسار «التحول الديمقراطي المنشود» يرتبط بعدة اشارات عايشتها النخب السياسية في السودان، فقد كان انجاز «التداول السلمي للسلطة» يمثل شعارا رئيسيا وسط حوارات دارت في الساحة السياسية، منذ منتصف التسعينيات، باعتبار أنه لا بد من ترسيخ الاستفادة من دروس تجارب الأمس في الواقع السياسي السوداني، ونعني بذلك ما آلت اليه تجارب «الحكم الشمولي» القائم على نظام الحزب الواحد، من فشل. ونتذكر ان زعيم حزب الأمة الصادق المهدي كان قد وقع مع الرئيس عمر البشير ، في جيبوتي في نوفمبر 1999 على اتفاق «نداء الوطن»، وحينها كان لافتا تصريح الرئيس البشير بأنه يقبل ب «التداول السلمي للسلطة». ان النظرة الواقعية للمعطيات الراهنة على الساحة السودانية، وسط حالة انقسام «الصف الوطني» بسبب الخلاف حول الانتخابات ونتائجها، تؤكد ضرورة اعلاء خيارات المصلحة الوطنية العليا. فمن جانب أول، فان هذه المعطيات بما تؤشر عليه من مخاطر بسبب تزايد التحديات التي تواجه السودان، تتطلب في اعتقادنا، ان يكثف المؤتمر الوطني «الجهود التصالحية» داخل ساحة العمل السياسي الوطني في السودان ، وذلك عبر منهج وفاقي مخلص في المرحلة الراهنة، ذلك أن الأوضاع الداخلية في السودان في ظل تأخر اكمال جوانب عملية السلام في دارفور، اضافة الى التحفز في أوساط أهل جنوب السودان، مع اقتراب موعد اجراء استفتاء تقرير المصير، هذه الأوضاع تستدعي خطابا سياسيا أكثر وفاقية، يتجه الى التحاور بشفافية مع كافة القوى الحزبية ومنظمات المجتمع المدني في السودان لتلمس رؤاها حول كيفية معالجة مشكلات الواقع السياسي السوداني في المرحلة الحالية. اننا نعتبر بأن هدف «الوفاق الوطني»، برغم حدة الاستقطاب السياسي الذي حدث في الساحة الداخلية، بسبب الخلاف حول العملية الانتخابية، هو هدف له أهميته في سلم الأولويات للاهداف الوطنية. ونشير الى انه من المهم أن يركز حزب المؤتمر الوطني في خطواته السياسية القادمة عقب اكتمال اعلان نتائج الانتخابات على تجديد مسارات الحوار بينه والقوى السياسية المختلفة وصولا الى الاتفاق المنشود حول كيفية العمل وفقا لرؤية قومية وببعد نظر سياسي حكيم لمجابهة تحدي الحفاظ على وحدة السودان واحلال السلام بشكل كامل في اقليم دارفور. ان التتبع لتطورات المعطيات السياسية في السودان الآن يخلص الى تأكيد أهمية فتح حوار سياسي شامل على المستوى الوطني. فبالرغم من اتساع شقة الخلاف بين الحكومة والمعارضة الا ان خطورة التحديات التي تواجه السودان ، تفرض على الحكومة اعتماد نهج سياسي يتسم بالمرونة في قبول الرأي الآخر، ما دام ذلك الرأي يصدر من قوى سياسية تؤمن ب «التداول السسلمي للسلطة». ان هنالك موروثا غاليا من القيم السودانية الأصيلة والحكيمة لايزال يسود العلاقات بين أطراف معادلة العمل الوطني في السودان، وذلك ما يمثل نافذة حقيقية للأمل في حاضر زاهر ومستقبل اكثر ازدهارا.نقول ذلك انطلاقا من تطلع صادق بأن يتجاوز السودان مخاطر «احتمال انفصال الجنوب». وفي الوقت ذاته، تنطلق هذه الرؤية التحليلية من التطلع لرؤية السلام واقعا أخضرا معاشا على أرض دارفور المعطاءة والنبيلة.. دارفور التي أنشد لها الفنان محمد وردي قبل عدة عقود أنشودة زاهية الشعر جميلة اللحن الموسيقي «من نخلاتك يا حلفا للغابات وراء تركاكا.. من دارفور الحرة نبيلة لكل قبيلة على التاكا.. لكل الدم السال يا وطني بنحلف نحن فداك فداك». المصدر: الوطن القطرية 27/4/2010