كتبت الإيكونوميست في الثلاثين من شهر مايو المنصرم عن سياسة سلطنة عمان المتفردة بالنأي بنفسها عن المشاركة بعاصفة الحزم لمحاربة الحوثيين. والمتتبع لسياسة السلطنة الخارجية يرى أن دور الوسيط الذي يُعتمد عليه أصبح نمطاً أصبغ على سياستها خصوصية لا شبيه لها في الشرق الأوسط. هناك اليوم مد طائفي مذهبي يعصف بنا، والخوف أنها البداية فقط في الحرب على الحوثيين في اليمن، وما أعقبه من تفجير مسجد للشيعة في المملكة العربية السعودية. ورأينا كيف تم تفجير مسجد الإمام الصادق في الكويت بدم بارد خلال الشهر الفضيل. قبل أن نقع في دوامة دموية لا آخر لها، هل من منفذ؟ فالحلول العسكرية باهظة الثمن، ولا يُلجأ إليها إلا كآخر الخيارات. وهنا أقول إن السلطنة أثبتت أنها دائماً لا تحيد عن مبادئها في سياستها الخارجية التي صاغها صاحب الجلالة السلطان قابوس، وأنها مستقلة الرأي لم تنجر مع الحشود. نعم السلطنة فرضت احترامها بموقفها الإنساني قبل كل شيء، وتدرك تماماً أن من يستقل برأيه ويدافع عن مبادئه قد يعرضه ذلك لتحديات مستقبلا، إلا أن الحكمة تكمن في كيفية ترجيح كفة المكاسب على الخسائر في اتخاذ القرارات الإستراتيجية. ما يحدث اليوم في الشرق الأوسط ليس طبيعياً على الإطلاق، فإذا ما نظرت إلى الخارطة سترى كتلا ملتهبة في العراقوسوريا، وليبيا، واليمن. هناك من يذهب إلى أن ذلك قد يكون استمراراً لتنفيذ اتفاقية سايكس - بيكو وتقسيم هذه الدول إلى دويلات، وتحليل آخر يذهب إلى أنه فشل قيام الدولة فيما بعد الاستقلال في هذه البلاد. كما أن الدعم اللوجستي لما يسمى بالدولة الإسلامية (داعش) واضح جداً. فترك هذا التنظيم الدموي دون تصدٍ يُذكر هو أكثر من دعم. والحقيقة التي ينبغي أن تكون حاضرة لنا أن كونداليزا رايس أعلنت منذ أكثر من عقد من الزمن عن مشروع شرق أوسطي جيد عبر الفوضى الخلاقة، مستخدمين نموذجي أفغانستانوالعراق. هذه قراءة سريعة لما نسمعه يوميا من أحداث في أجزاء متفرقة من الشرق الأوسط، وكمحاولة للخروج من دائرة التحليل المعتادة، لما لا نتعمق في رؤية العالم وانطباعه عن الشعوب العربية عوضاً عن الدوران في نفس الدائرة؟ العالم يرى أن الناس في الشرق الأوسط تستمتع بالقتل، والمسلم يقتل أخاه المسلم، فلم يذهبوا لقتال إسرائيل. كما أن الشعوب في رأيهم تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية. من السهل إلقاء اللوم على الشعوب العربية، في المقابل، ماذا فعلت الدول الأوروبية وأمريكا؟، غير تفوقها بالضربات الجوية في ليبيا والعراق. لنتعمق أكثر في رؤيتهم، فهم اليوم يربطون ما يحدث في الشرق الأوسط بما حدث من حروب للتخلص من سلطة الكنيسة (الدين) في القرن الثامن عشر. في حين لا أظن أن هذا ربطا دقيقا، فالظروف تختلف في الشرق الأوسط اليوم عما كانت عليه في أوروبا في القرن الثامن عشر. ورغم التشاؤم الذي يسود المنطقة وقد لا يرى كثيرون النور في آخر النفق، إلا أنني أرى أنه يمكننا العبور بسلام، ولا داعي أن نخوض حروبا دينية، مثلما فعلت أوروبا. فسنغافورة وماليزيا كانتا دولا مستعمرة فقيرة جدا، وعلى وجه الخصوص سنغافورة بها مجتمع متنوع الأعراق والديانات يسمى بمجتمع القوس قزح، إلا أنها نجحت في أن تكون في مقدمة العالم الأول. وحتى لا نذهب بعيدا، ألم تنجح تركيا بالنهوض رغم انهيار الإمبراطورية العثمانية، واستطاع أتاتورك أن يؤسس لدولة تركيا الحديثة عبر تبنيه العلمانية؟ هنا يجب أن نتوقف لنحاول أن نفهم لماذا لم ننجح، ولماذا ينظر لنا الغرب بهذه النظرة؟ ينبغي على الإنسان في الشرق الأوسط أن يوجه نظره إلى خارج محيطه، ولا يحكر فكره بالنظر إلى داخل بُحيرته، فمن المحبط أن تكون نظرة الإنسان محدودة بما حوله. الشعوب الآسيوية لديها قيم كتقديس العمل بَنت على قيمها، وأجادت استثمارها فخرجت من صفوف العالم الثالث. اليوم لا تنقصنا العقول في الدول العربية، بل تنقصنا مثل هذه القيم ومنها الالتزام والعمل الدءوب أكثر من الكلام. غضبنا هذا حيال ما يحصل يجب أن تطوعه لعمل مفيد، بدلا من الحسرة والألم. لماذا نحب تصنيف الناس حسب ديانتهم ومذاهبهم؟ لنجعل تصنيفنا مبنيا على أساس القدرات والجدارة، حتى يكون الامتياز عُرفا لدينا. الغرب يحاول كل يوم أن يذكرنا أن العرب مشكلتهم هي أنفسهم، علينا أن ندرك الفرق بين جلد الذات والجرأة على النقد البناء، فالقدرة على السخرية على الذات هي أعلى درجات الثقة بالنفس. وليس هناك داع لإعادة اختراع العجلة، فلن تفيد الإصلاحات الجزئية على المستوى الثقافي والاجتماعي، بل نحن بحاجة إلى إصلاح فكري جذري. ينادي الكثير من مستنيري هذا العصر بأن جذور الحركات المتطرفة موجودة في بعض كتب التراث الإسلامي التي هي اجتهادات لعلماء العصور السابقة، لذا فهم يرون أنه لا يكفي مجرد "النداء بتجديد الخطاب الديني"، إنما هناك حاجة إلى إصلاح جذري. فهل لدينا الجرأة لتناول أمهات الكتب التراثية بالتحليل العلمي؟ وهل ستقوم مراكز البحوث بذلك؟ هل نكتفي بخلافنا مع أفكار مثل أفكار عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، دون أن نناقشها؟ ماذا فعلنا لصد الخطر الداعشي؟ مؤتمر وراء مؤتمر، مرة لدراسة المخرج في سوريا واليمن، ومرة لتأسيس قوة عسكرية مشتركة، ولكن ما جدوى الحل العسكري إذا كنا نخشى مناقشة الحلول الجذرية، لماذا لا يكون هناك مؤتمرات تجمع بين مختلف التيارات الفكرية، المحافظ منها والتجديدي؟ لماذا الجماعات الإرهابية المتطرفة في غاية التنظيم؟ الواضح أنها لعبت على الفئة الفقيرة ذات التعليم البسيط فكسبت الميدان. بينما في المقابل عجز المجددون الذين ينضوون تحت مسميات عديدة، مثل الليبراليين والعلمانيين، أن يكون لهم أي أثر ولا حتى فكر تنظيمي. إن طغيان الحركات المُتأسلمة وسيطرتها على الشارع لا سبيل في مواجهتها إلا أن يقوم تيار تجديدي تقوده النخبة. طالما أن التيارات المتشددة أكثر تنظيما من أي تيار آخر فلا مخرج لنا، فأين هم المجددون من العمل الميداني المنظم؟ فالساحة بحاجة إلى لاعبين جُدد، وهل ستساند الحكومات المعتدلة هؤلاء المجددين؟. المصدر: الشرق القطرية 9/8/2015م