أسوأ المخاطر التي تترتب على أي نظام، سياسي أو ديني أو اجتماعي أو اقتصادي أو غيره، ألا يجد التزاما من الذين يتراضون أو يتوافقون عليه، عندها سيتآكل ويتهاوى وتختلط التفسيرات والتأويلات والتماس الثغرات، وأكثر تلك الأنظمة تأثرا كارثيا بعوامل الانهيار هي الأنظمة الدينية، لأن فيها مساحة من التفسير يتزاحم حولها كل حافظ نص مبتسر، أو غير قادر على التعاطي الفكري مع مقتضياته. الإسلام دين سهل ويسير للغاية، وليس بحاجة لتشدد أو غلظة، ذلك يتنافى مع روحه وجوهره »هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق« ولذلك فإن أولئك الذين يصيحون ويعلو صوتهم في المنابر إنما يجعلونه موضعا لخطاب لا يليق أو يتسق مع حقيقته، وبذلك يظل الخطر الذي يمكن أن يفتح الأبواب لريح فاسدة هم الدعاة، وليس من قبل المبالغة أنهم من الخطورة على الدين بأكثر من اللاهين في المراقص والخمارات. لننظر في الإرهاب الذي طال باريس أخيرا، هل الذين قتلوا وذبحوا وفجروا يحملون رؤية دينية تنطوي على اقتداء بمقتضيات الشرع في احترام الحرمات والنفوس؟ هل فكروا في التوجه بالدعوة بالتي هي أحسن الى المواقع العامة بسلاح الكلمة الحسنة والرقيقة التي تخاطب القلوب والعقول؟ هل فكروا في منح الأبرياء من غير الملة حقوقهم في الاختيار على قاعدة »إنك لن تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء«؟ حين خرجت صحيفة نصفية إيطالية في اليوم التالي لإرهاب باريس بمانشيت »المسلمون الأوباش« فإن الذي منحنا هذه النتيجة والصفة ليسوا هم ولكن أولئك الذين يزعمون أنهم يحملون راية الدين، وهي راية تلوثت بإجرام ثلّة أمعنت في الخطأ، وهو خطأ معقد نسبيا، يحتمل اجتهادات خاطئة وعقول مسلوبة وقلوب تائهة وضالة لطريق الحق الذي لا يمكن أن يمر عبر أرواح الأبرياء ودمائهم وأشلائهم. حتى حينما أصدرت مجلة فرنسية رسومات هزلية لرسولنا الكريم بما يمكن تفسيره بأنه إساءة وسخرية، فإن رد الفعل بالقتل على من فعلوا ذلك ليس له سنده المنطقي الشرعي، فالرسول الكريم تمت إهانته والإساء اليه من كفار قريش ووصف »وحاشاه« بالكذاب الأشر والأبتر والساحر والمجنون، فهل تعامل صلى الله عليه وسلم برد الفعل وكمن وغدر بمسيئيه؟ الله كفاه المستهزئين ويمتد جوهر المعنى في النص »إنا كفيناك المستهزئين« الى قيام الساعة بما تنتفي معه غزوات هؤلاء الذين يقتلون أبرياء فرنسا وغيرها. التعامل برد الفعل سلوك غير عقلاني، وإذا برر هؤلاء استهدافهم لأبرياء الغرب والمسلمين ومن ورائهم شيوخ الظلام والحجب بالانتقام لأخوانهم المسلمين في سورية أو العراق أو أفغانستان أو مالي وغيرها، فذلك يتناقض مع سماحة الدين فهل علموا أن من بين هؤلاء الضحايا من كان في طريقه لأن يهتدي؟ وهل يمكن الانتقام لدين كامل بممارسات إجرامية لا يوجد لها سند شرعي حقيقي. وحتى رسولنا الكريم عندما شجّت رباعيته في بدر كان ذلك في غزوة وحالة حرب ولم ينتقم بصورة وحشية مدمرة لما جاء به لهداية العالمين. من أكثر ما تسبب بألم للرسول الكريم قتل عمه حمزة بصورة متشفية وقبيحة، ولكنه لم يتربص لقاتله وحشي أو أرسل أصحابه في إثره ليشفي غليله وغيظه، وإنما كان أن اهتدى وحشي وأسلم ولكن نفس النبي لم تألفه في حالة بشرية خالصة، ولم يبادر الى رفض إسلامه، وهكذا هناك مساحات راقية ومترفقة بالآخر لا يمكن لبعد الشقّة بيننا وبينها أن يمحوها إلا في نفوس متعطشة للدم وتعيش الوهم. مشكلة الدين الأساسية في أولئك الدعاة الذين يفتحون منابرهم بالويل والثبور وعظائم الأمور لمن يدينون بالدين وتقوده خطاه الى المساجد ليجدهم يتحدثون عن الجحيم بدل النعيم، والشر بدل الخير، فينسجون صورة ذهنية معتمة في عقول أجيال تخربت رؤيتها وانفصلت عن توجيهات وتعاليم دولة المدينة التي قامت على السماحة والرفق. أولئك الدعاة يجدون سهولة وراحة في سب أبناء الملة والدعاء عليهم لأنهم في نظرهم ضالون وفاسقون دون أن يبذلوا جهدا في مقاربات يسيرة معهم لتقويمهم، ودون جهد في الانفتاح على آخرين لا يعلمون عن الدين شيئا يهدونهم إن استطاعوا، أمامهم منابر مفتوحة يقذفون من خلالها حمما من الخطب المكررة والمحفوظة لا يمكن أن تنصر دينا أو ترتفع بقيمة إنسان. لم يفلح الرسول الكريم في هداية عمه أبي طالب ولم يجد استغفاره له »استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم« فماذا كان رد فعل النبي وهو يلح في هداية عمه؟ تركه لمصيره، فهل ترك أولئك الدعاة غيرهم لمصيرهم؟ ثم ما أدراهم بأن ضحاياهم الذين يدعون عليهم أقرب الى الله منهم؟ الدين ليس بحاجة الى نصوص متصلبة وإنما مفتوحة تستكشف قيمه وأخلاقه، فالتدين لازم معنوي من لوازم الذات، ليس ما يمكن رؤيته في لحى مرسلة وأفواه كبيرة تلفظ ما تحفظه دون تدبر، فالله يحاسب بمقتضيات العقل وليس النقل، وقد وردت كلمة العقل في القرآن أكثر من ستمائة مرة تعظيما له، ولكن هؤلاء »على قلوب أقفالها«. المصدر: السياسة الكويتية 18/11/2015م