حين تبدي الحكومة السودانية – وهي حكومة منتخبة وذات قاعدة عريضة في الوقت نفسه – رغبة جادة في حل أزمة دارفور عبر التفاوض في الدوحة رغم المشاغل الجمة التي تواجهها بشأن تقرير مصير الجنوب باعتباره الأمر الأكثر خطراً على وحدة البلاد. وحين يستنكر السودانيون ومعهم كامل الحق قيادة المتمرد خليل لهجمات عسكرية موتورة منطلقاً من الجارة الجماهيرية وهو ضيف عندها. فهذه كلها في المحصلة النهائية محاولات من الحكومة السودانية – اتفقنا أو اختلفنا معها – لمعالجة أزمات البلاد دون خسائر سياسية وعسكرية في هذا الجانب او ذاك، وتلك إحدى أهم مؤشرات المعالجة (بلا جراحة) وبأقل قدر من الألم لإثبات المهارة والقدرة على المعالجة. ولكن هذا لا ينزع حق الحكومة وهي كما قلنا حكومة منتخبة وتستند على قاعدة جماهيرية وبداخلها قوى سياسية إضافية في أن تفعل (ما هو حق مكفول لها) لمعالجة هذه الازمات. لهذا فإن مراهنة الجارة الجماهيرية – أياً كانت حساباتها – على إمكانية لعبها بورقة التمرد في دارفور باستضافة المتمرد خليل وتصعيد الأخير لعملياته العسكرية، أو مراهنة فرنسا – ولو في صمت شديد – على امكانية استخدامها هي الاخرى ورقة المتمرد عبد الواحد (بالتزامن) مع هجمات خليل، مع علم الاثنين فرنسا والجماهيرية أن هناك مفاوضات في الدوحة بشأن دارفور قطعت شوطاً وهناك (رعاة محترمين) لهذه المفاوضات أبرزهم الوسيط المشترك للاتحاد الافريقي والأمم المتحدة جبريل باسولي، ومع علم الاثنين فرنسا والجماهيرية أن لا الدكتور خليل بالنسبة لطرابلس ولا المتمرد عبد الواحد بالنسبة لباريس بامكانهما الآن تغيير المعادلة على الأرض في دارفور لاكتساب مزايا جديدة أو فرض رؤى جديدة أو واقع جديد يتيح لهما موقعاً افضل في أي مفاوضات فإن الأمر يبدو اهداراً حقيقياً لأموال وجهود كان الأولى بها دعم أهل دارفور. ففي النهاية فإن الحكومة السودانية حتى حين لم تكن منتخبة قاتلت الحركة الشعبية وجيشها الشعبي لعقود – مع فارق كبير بين قوة الحركة حينها والحركات المسلحة الحالية في دارفور – لم تضعف للدرجة التي قبلت فيها بأمور من موقع (المتسلم الضعيف) فقد خلص الطرفان الحركة والحكومة الى اتفاق سلام متوازن اقتنع كليهما به دون غالب أو مغلوب. ولعل هذا ما يجعل رهان المراهنين حالياً على ورقتي خليل وعبد الواحد ضرب من المقامرة في صالات القمار وفقدان للعظة والدروس من التاريخ. ولعل من سخريات القدر وتصاريفه الغريبة أن باريس وطرابلس تثيران دارفور الآن بعد أن هدأت وقرر أهلها إختيار من يمثلونهم في حكوماتهم الولائية وعلى المستوى المركزي، ويعملان في الوقت نفسه على عرقلة استفتاء الجنوب. إن وعد القائد القذافي بعدم انطلاق خليل من أراضي الجماهيرية يظل (مجرد وعد) ما لم يتبع قوله بالعمل، واصرار باريس على الاحتفاظ بعبد الواحد وتحريكه من حين لآخر رغم ضعفه العسكري والجماهيري هو عمل أخرق يعرقل استفتاء الجنوب السوداني واستكمال بنود اتفاقية السلام الشامل. ان أزمة دارفور ليست أكثر سوءاً من حرب الجنوب الطويلة ولن يكون حلها أسوأ من ما توصل اليه المجتمع الدولي والاقليمي وطرفي النزاع في نيفاشا 2005 ولهذا فإن على كل من طرابلس وباريس أن تعيدا حساباتهما جيداً!!