باتت قضايا السودان الرئيسية الآن، محفوفة بالعديد من ارهاصات المآلات السلبية، حيث يزداد الترقب لمعرفة النتائج المرتقبة لتصويت مواطني جنوب السودان على استفتاء تقرير المصير، الذي أقرته اتفاقية السلام الشامل، الموقعة بنيروبي في يناير 2005 تحت وساطة منبر «شركاء الايغاد». لقد تابع المهتمون بالشأن الوطني السوداني بحرص شديد أعمال الاجتماع رفيع المستوى حول قضايا السودان، والذي عقد على هامش مداولات الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، الاسبوع الماضي. ومن المؤكد أن بعض المؤشرات الأساسية التي يستشفها المراقب للحراك الدولي المتعلق بقضية جنوب السودان، ترسم انذارا مفزعا بأن جنوب السودان مقبل على (الانفصال).. وهو الخطر الذي طالما تخوفت منه العديد من القوى الوطنية في السودان. ان دق ناقوس «خطر الانفصال» الآن، باستحضار عدة مؤشرات في مقدمتها تصريح سلفا كير ميارديت، النائب الاول للرئيس السوداني، ورئيس الحركة الشعبية الموقعة على اتفاق السلام، بأن غالبية الجنوبيين سيصوتون لصالح خيار «الانفصال»، و الذي عزا ذلك الى شعور الجنوبيين بأن خيار الوحدة لم يعد جاذبا، نقول ان اطلاق نوايا الانفصال هذه في الوقت الراهن، يمثل أحد المعطيات السيئة التي لا نقول بأنها لم تكن متوقعة، لكننا نرى بأنها ليست محبذة لدى العديد من النخب في أوساط السياسة والفكر بالسودان. ولا ريب ان تصريح سلفا كير «المبكر» عن الاحتمال الذي ينزع نحو خيار انفصال الجنوب، سيصعب من مهمة الساعين ومنذ فترة لبذل جهود اللحظات الاخيرة من أجل انقاذ ما يمكن انقاذه، وهي جهود لا يعد المنخرطون فيها هم من مؤيدي المؤتمر الوطني فقط، وانما هي جهود شارك فيها الكثيرون، وبينهم من حملوا لسنوات لواء معارضة تجربة الانقاذ الوطني مقدمين في هذا الصدد أطروحاتهم السياسية الخاصة ،بشأن الحلول الملائمة الممكنة لتفادي أخطار التجربة السياسية في المرحلة الحالية. ان التطورات الحالية تقلب الطاولة على هذه الجهود الداخلية الصادقة والهادفة لتبيين ان خيار صون وحدة السودان يمثل الخيار الأمثل من وجهة نظر أصحابها. ومن المهم ان نؤكد هنا بأن الوضع الراهن على الساحة السودانية، وسط نذر انفصال الجنوب، يتطلب ادارة هادئة لتداعيات الأزمة السياسية التي تثير المخاوف من انفتاح المشهد السياسي السوداني على احتمالات شتى، بفعل التطورات الاستباقية التي اعلن زعيم «الحركة الشعبية» من خلالها، أنه لا جدوى من المناداة بالحفاظ على الوحدة، مفضلا ان تتجه الانظار نحو اكمال «مشوار الانفصال» دون منح الوحدة الفرصة السياسية المكافئة لفرصة خيار الانفصال. ونرى هنا بأن المطلوب من القيادات الحزبية ذات الثقل التاريخي في المشهد السوداني ان تقول الآن كلمتها بوضوح، ردا على تصريحات قيادة الحركة الشعبية.. فالمجال حاليا ليس مجال تصفية حسابات قديمة في دفاتر السياسة منذ 30 يونيو 1989 وما بعدها. كما نمضي في ذات الاتجاه لنقول بأن الضرورة تحتم انعقاد عدة جلسات للحوار الوطني بين الفرقاء السودانيين بخصوص هذه التطورات، وليس منطلقنا هنا هو التقييد على حرية المواطن الجنوبي في قول كلمته، حول رغبته بشأن مصير الاقليم للفترة المقبلة، فذلك الحق كفلته له اتفاقية السلام المضمنة في دستور السودان منذ عام 2005، ولكن المنطلق الحقيقي لادرة حوار وطني شامل وصريح - في نظرنا - هو الرغبة في توضيح حقائق الواقع دون تزييف، فلا مجال للقبول بادعاءات تحت عناوين عريضة دون سند على ارض الواقع، من قبيل ان الشمال قد ظلم الجنوب «ظلما تاريخيا» منذ ما قبل الاستقلال مرورا بالاستقلال ثم عهود تجارب الحكم المتعاقبة حتى اليوم. ان مسؤولية مواجهة تحدي انفصال الجنوب تفرض ان يكون هنالك حراك سياسي كبير، يتم خلاله استحضار الحقائق الرئيسية حول ما حدث في الساحة السودانية طيلة العهود الماضية، ولا بد من اتاحة الفرصة لأطروحات الاكاديميين وخبراء الاستراتيجية ليدلوا بدلوهم في مآلات الواقع السياسي المتعلق باجراء الاستفتاء، خاصة مسألة الايفاء بالشروط الضرورية لتنظيم استفتاء محمل بالكثير من الأهمية كاستفتاء تقرير مصير الجنوب، وفي مقدمة تلك الشروط وجود أجواء آمنة وحرة في الشمال والجنوب، ليتمكن (دعاة الحفاظ على وحدة السودان) من قول كلمتهم، مثلما ما نال «الانفصاليون» وهم أحرار في طرحهم المحبذ لخيار الانفصال، فرصتهم للحديث عبر منابر مختلفة. لا شك ان التداعيات الراهنة المتعلقة بقضية جنوب السودان، تتطلب ان تسعى القوى الوطنية السودانية كلها من اجل تدارس واقع القضية في ابعادها المختلفة، ليتسنى عبر الحوار البناء والعقلاني، الخروج بمواقف موحدة لمجابهة مخاطر احتمال تصويت الجنوبيين لصالح خيار الانفصال. ان المؤمل في هذا الظرف السياسي المحفوف بالمخاطر ان تشهد الساحة السودانية المزيد من الحراك الوطني النابه، الذي ينطلق من منطلقات الصدق مع النفس ومع الآخرين. فحين تكون النوايا السياسية خالصة، لا يحركها سوى الحرص على المصالح الوطنية الاستراتيجية العليا فلن تختلف القوى السودانية حول «خريطة الطريق» المطلوبة لتفادي انحدار الاوضاع باتجاه سكة «التفتيت». ونرى ان التأكيد على البعد بقضية الجنوب عن النظرة ذات الغرض البعيد عن مصلحة الوطن الحقيقية، ونعني بذلك تلك النظرة السياسية التي ترتبط بالحرص على ارضاء قوى خارجية، أكثر من الحرص على التعرف على ما يريده الناخب الجنوبي، أن التأكيد على ذلك، يمثل صمام الأمان للحيلولة دون نشوب أزمة سياسية معقدة بالبلاد على شاكلة ما عرفته في السابق، وما تعرفه الآن أوضاع العمل السياسي بالعديد من دول المنطقة، عربيا وافريقيا. المصدر: الوطن القطرية 30/9/2010