تحليل سياسي يمكن القول دون أدني تردد إن الحزب الوطني بالفعل بدأ يكسب معركته الصعبة حيال حسم القضايا العالقة بين الشمال و الجنوب قبل إجراء الاستفتاء؛ أو على الأقل إجراء الاستفتاء فى أجواء هادئة و مناخ مواتي . ولعل أولي مؤشرات هذا الكسب هو صدور تصريحات ، أو تلميحات من واشنطن بشأن احتمال تأجيل الاستفتاء و الإشارة هنا الى ما صرحت به مندوبة واشنطن فى مجلس الأمن سوزان رايس قبل يومين. و ما من شك ان الوطني منذ البداية إنتهج خطاً منطقياً سليماً و ثابر وثبت عليه ، فهو لم يطلب مطلقاً تأجيل الاستفتاء و ظل يؤكد ليل نهار وعلى لسان كل قادته أنه مع التزامه بإجراء الاستفتاء فى مواعيده . على الجانب الآخر فان الحركة الشعبية و أصدقائها خاصة فى الولاياتالمتحدة ظلوا يضغطون على الخرطوم لإجراء الاستفتاء فى موعده، ولكنهما لم ينتبها الى هذه العوائق الطبيعية التى قد تعيق العملية ،و يمكن القول ان هذه العوائق الطبيعية تتمثل فى القانون الذى على أساسه يجري الاستفتاء ، فهو ينص على جداول زمنية معينة من الصعب مخالفتها ومن الصعب ايضاً الحصول على استفتاء حر و نزيه لا تترتب عليه مشاكل دون إتباعها. من جهة ثانية فان من العوائق الطبيعية ، حلحلة القضايا العالقة و فى مقدمتها ترسيم الحدود بين الشطرين الشمال و الجنوب ، و حل نزاع أبيي و فى مسألة أبيي تحديداً فان قضية تحديد الناخب و مواصفاته و شروطه قضية جوهرية و مهمة يستحيل إجراء استفتاء فى المثلث بالتزامن مع الاستفتاء العام بدون اتفاق على تعريف الناخب . لقد بدت الحركة الشعبية حيال هذه القضايا الحساسة الهامة وكأنها غير عابئة بها تماماً ولا تخصها، بل يمكن القول ان الحركة بدت كما الطفل الذى يريد الحصول على الشئ دون ان يهمه كيف يمكن لوالده ان يحصل عليه؛ وهذا فيما يبد ما رجَّح منطقية موقف الوطني ، فهو ظل ثابتاً على موقفه ولم يقبل بكافة الصفقات التى عرضتها عليه واشنطن ، بل لا نبالغ ان قلنا ان الوطني بدا أكثر ذكاء حين ظل يرفض العروض التى تقدم له لأنه أدرك ان رفض هذه العروض معناه ان يضطر الطرف الآخر للرضوخ فى النهاية، فالذي يقدم عروضاً باستمرار للتغاضي عن شئ هو دون شك يسعي للحصول على شئ لا يستحقه أو يريده مجاناً وقد أخطأت واشنطن حين ظلت تقدم هذه الصفقات وهى تعلم ان من الصعب إن لم يكن من المستحيل ان يقبل بها الوطني لمجرد تطبيع علاقته مع واشنطن ، أو الحصول منها على مكاسب ، وهكذا يمكن القول ان صمود الوطني و صلابة موقفه و استناده الى القانون جعل المسافة تبدو قصيرة للغاية ما بين خسرانه للمعركة و كسبه لها.