أقدم الرئيس الأسبق جعفر نميري في سبتمبر من العام 1983م على خطوة كانت من الجرأة والقوة والأصالة بحيث لم تستطع بفضل الله تعالى مكائد السياسة الدولية ولا ألاعيب السياسة الداخلية من زحزحتها أو القفز عليها مع بذل قصارى الجهد وإفراغ ما في الوسع والحيلة من كيد ومحاولات الالتفاف. وإذا تجاوزنا محاولات البعض التنقيب في النوايا واتهام الرئيس الأسبق نميري بأغراض سياسية دنيوية من وراء خطوته تلك؛ فإن الانقلاب القانوني الذي أحدثه إدخال قوانين الشريعة الإسلامية كمرجعية أساسية تهتدي بها الدولة في مجالات القانون الجنائي وأصول الأحكام القضائية والقانون التجاري كان له أكبر الأثر في إنجاز خطوات واسعة نحو استئناف الحياة الإسلامية بعد عهود ضلت فيها القوانين السودانية في التسول على القوانين البريطانية والهندية وغيرها من بنات أفكار الفكر العلماني الضال. وممايؤخذ على الرئيس الأسبق نميري تزامن إصدار القوانين الشرعية مع غيرها من القوانين التي لا تمت لها بصلة كقانون الأمن العام وما تبع ذلك من إعلان لحالة الطوارئ في البلاد واضطراره لتنفيذ الحدود الشرعية عبر محاكم الطوارئ بعد الإضراب الذي قاده القضاة في ذلك الزمان. وواحدة من أساليب الالتفاف العالمية لإسقاط القوانين الشرعية بعد أن أزعجتهم هذه الخطوة الجريئة؛ كانت زيارة نائب الرئيس الأمريكي آنذاك بوش الأب إلى السودان في مطلع العام 1985م وضغطه على الرئيس النميري للتحلل من القوانين الشرعية وإبعاد الإسلاميين المتحالفين مع النظام آنذاك عن سدة الحكم ومراكز اتخاذ القرار بل وإقصائهم نهائيا عن العمل السياسي والزج بهم في المعتقلات، وهو ما أقدم عليه الرئيس النميري فعلا بعد عودة بوش الأب إلى بلاده؛ فقام باعتقال كل الصف الأول تقريبا من قيادات الإسلاميين، وهو الأمر الذي أدى ضمن عوامل أخرى إلى سقوط النظام المايوي كله بعد أقل من أربعين يوما من هذه الاعتقالات. وفي الفترة الانتقالية التي تلت سقوط النظام المايوي في أبريل 1985م بذل اليساريون والعلمانيون جهودا واسعة وتحركوا تحركات نشطة لإلغاء قوانين الشريعة الإسلامية استباقا لموسم الانتخابات الذي يعلمون جيدا أن القوى الإسلامية بمختلف أحزابها ستفوز حتما فيها، وضغطوا ضغوطا هائلة على عمر عبد العاطي النائب العام في الفترة الانتقالية، لكنه لم يرضخ لهم وأطلق عبارته الشهيرة: لا إلغاء ولا إبقاء بل تعديل. لكن الفترة الانتقالية مرت كلها دون أن يستطيع العلمانيون واليساريون إسقاط القوانين الشرعية من القوانين السودانية. وطوال فترة حكومات الصادق المهدي المتعاقبة منذ العام 1986 إلى العام 1989م لم يستطع أحد أن يُلغي القوانين الشرعية رغم أن الجبهة الإسلامية القومية التي كانت تدافع عن هذه القوانين كانت أحيانا في مقاعد المعارضة، والسبب في ذلك ببساطة أن كل من حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي لا يستطيعان الإقدام على خطوة إلغاء القوانين الشرعية لأنهما إنما يستندان أساسا على مشروعية شعبية تتمثل في طائفتي الأنصار والختمية وتأبي هذه القواعد المساس بالقوانين الشرعية ضمن التناحر السياسي بين الفرقاء على مضمار الساحة السياسية السودانية. إن مرور خمسة وعشرين عاما على تثبيت القوانين الشرعية ضمن القوانين السودانية محطة مهمة تستدعي التوقف من كل المسلمين وكلهم معنيون بهذا الأمر لمراجعة التجربة من جوانبها المختلفة والاستهداء بتجارب البلاد الأخرى التي سبقتنا في هذا المضمار كتجربة المملكة العربية السعودية وغيرها من البلاد الإسلامية. ولعل تطورات السياسة السودانية عبر خمسة و عشرين عاما ألقت بظلال كثيفة على التجربة الإسلامية في السودان وأرهقتها بأعباء فواتير سياسية استدعتها التوازنات والحسابات المحلية والإقليمية والدولية، ولعل أبرز التأثيرات خطورة على القوانين الإسلامية في السودان اتفاقية نيفاشا التي أوجدت واقعا علمانيا في جنوب السودان، ويسعى العلمانيون واليساريون في الشمال لتعميم هذا النموذج بشتى الطرق والوسائل يعينهم في ذلك شياطين الجن والإنس.