يعد البروفيسور مالك بدري من ألمع الشخصيات الإخوانية بالسودان، وقد رشح لقيادة الجماعة أكثر من مرة في تاريخه الدعوي.. ينحدر بدري من أسرة سودانية عريقة؛ فقد أسس والده الشيخ بابكر بدري أول مدرسة حديثة للبنات في 1907، وقد حملت هذه المهمة آل بدري على الارتباط بالمؤسسة الاستعمارية البريطانية قبل الاستقلال في 1956، ثم استمر ارتباط هذه الأسرة ثقافيا وفكريا بالمؤسسات الغربية. إلا أن مالك بدري قد أفلت من هذه الارتباطات الفكرية والثقافية واختار في وقت مبكر من عمره الالتحاق بالحركة الإسلامية الحديثة بعد إيمانه بالفكر الإسلامي الجديد عند مدرسة الإخوان المسلمين، وقد دفع انتماء مالك بدري المبكر للجماعة أن يطلق بعض الإخوان عليه مازحا وصف "مؤمن آل بدري". درس مالك بدري علم النفس بالجامعة الأمريكيةببيروت منتصف خمسينيات القرن العشرين، ونال تخصصه الدقيق في جامعة لستر بإنجلترا، وأسس عدة أقسام لعلم النفس بالجامعات السودانية والعربية، ودرس علم النفس بجامعات باكستان، وهو الآن أستاذ لعلم النفس بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا. مثلت فترة بيروت لحظة حاسمة لبدري؛ فقد تعرف عن طريق الطالب السوداني آنذاك "علي شبيكة" بالإخوان المسلمين في الجامعة الأمريكية، وهذه المجموعة تولت مسئولية العمل الإسلامي بوجه من الوجوه في بلدانها، ومنهم الدكتور إسحاق الفرحان الداعية الإسلامي المعروف الذي تولى رئاسة الجامعة الأردنية، وكان وزيرا للتربية والأوقاف في الأردن. وأصبح بدري بثقافته العالية وروحانيته الفياضة مدرسة مميزة في التربية داخل جماعة الإخوان المسلمين السودانية، لم يثنه عن ذلك الاعتقال في فترة الرئيس جعفر النميري، ولا خلافه مع الدكتور حسن الترابي. وقد دفعت هيمنة حسن الترابي الكثيفة -بتوجهاته الفكرية والحركية على الجماعة بحلول العام 1969م- بدري للاستقالة من المكتب التنفيذي بل ومن الجماعة كلها، وقد أنشأ بدري مع آخرين حركة صغيرة للإخوان ورشح الدكتور الحبر يوسف نور الدائم أميرا عليها. بعد عشرات السنين من تأسيس هذه الجماعة عاد بدري مرة أخرى إلى أحضان التصوف، والعودة إلى التصوف من أبرز المظاهر الدينية بالسودان؛ يمثل بدري حالة من حالتها، فاليساريون يعودون إليه، والعلمانيون السودانيون يرجعون إليه في متابهم قبل الموت. تصوف البنا * من المعروف أنكم من القيادات المؤسسة لجماعة الإخوان المسلمين في السودان، وسمعنا أنكم تحولتم إلى التصوف، فهل هذا صحيح؟ وما هي أسباب هذا التحول؟ - ما سمعته صحيح، ولكنه ليس هو بالتحول الكبير؛ فأنا من الخمسينيات كان اتجاهي العام هو هذا الاتجاه، وأعتقد أنه اتجاه الإمام حسن البنا نفسه، فالذين يقولون إنهم إخوان مسلمون في السودان لا يلتزمون بمنهج البنا؛ فالبنا حتى انتقل إلى جوار ربه ما ترك التزامه بطريقة الصوفية الحصافية الشاذلية، وإذا قرأت المأثورات وقارنتها بأوراد الشاذلية فستجد تشابها لا يمكن أن يكون بمحض الصدفة، وقد أكد لي الأخ جمال عمار- هو أخ مسلم مصري لجأ للسودان أيام بطش عبد الناصر بالإخوان، وكان من مرافقي الإمام حسن البنا- أن البنا لم يترك الأوراد الشاذلية إلى وفاته.. وأنا أعرف عدة قصص عن البنا تؤكد أنه كان شيخا صوفيا واصلا (قالها وهو يضحك). * بأي معنى كان تصوف حسن البنا؟ - كان بمعنى العبادة والالتزام بها، وتزكية النفس وفق منهج التصوف الحق يهدف إلى معرفة الله، وأي جهد في غير هذا الأمر هو بلا طائل من ورائه. * هل ترى أن الإخوان انحرفوا عن هذا المنهج؟ - نعم، الإخوان في بعض البلاد انحرفوا، والجماعة في السودان انحرفت كثيرا عن هذا الخط التربوي الأصيل في منهج الإخوان، وانجرفت نحو السياسة. بالنسبة لي منذ البداية كان عندي عدم رغبة وقبول للناحية السياسية الموجودة في الحركة الإسلامية؛ ولهذا رفضت كل العروض المتصلة بالسلطة، وقد عرض عليّ الرشيد طاهر بكر عندما كان متنفذا ورئيسا للوزراء في حكومة النميري أن أكون وزيرا فرفضت، لم أكن ميالا لهذه الناحية، وكنت ميالا للتصوف، وقد بدأ ذلك في اهتماماتي الأكاديمية؛ حيث تخصصت في علم نفس ما وراء الحس (الباراسيكولوجي). الإنسان عندما يكون في الثلاثين من العمر يطمح لتغيير العالم، وفي الأربعين يقنع بتغيير بلده، وفي الخمسين يرتضي بتغيير أسرته، وفي الستين يحتاج لتغيير نفسه، وقد تجاوزنا هذه السن. المودودي والترابي * كيف يمكن التوفيق بين منهج حسن البنا ومطلب التغيير عند جماعة الإخوان؟ - هناك مفهوم التربية، هل كان مطبقا تطبيقا حقيقيا بالإخوان؟! كنت معجبا بالمودودي وأسلوبه في قبول عضوية الراغبين، حيث يدرسون الأخ وخلفياته، وعلاقاته بمحيطه الأسري والمهني، وآراء رؤسائه في العمل وأصدقائه، وتعامله بالدرهم والدينار، طبعا هذا الأسلوب يخلق حركة صفوية، ولكن في المقابل يوجد أسلوب حسن الترابي فقد كان يرى مالك بدري وفلانا وفلانا يضيعون وقتهم بالاهتمام بالتربية ودعوة النساء للحجاب، وكان يقول إنه يستطيع بقرار جمهوري واحد تغيير كل ما نجهد أنفسنا به آنذاك، وفحوى القرار (على نساء السودان ارتداء زي مواصفاته كذا وكذا). ولكن الآن الترابي يتعذب بسبب تلاميذه الذين أهمل تربيتهم بل وتربية نفسه أيضا. * هل الترابي مسئول مسئولية مباشرة عن الخلل التربوي؟ - نعم، إلى حد كبير، هو والذين معه، وأذكر في أحد من المؤتمرات التي شهدت نقاشا عنيفا كان الترابي يقول إننا لا نريد من المقبلين على حركتنا سوى أمرين: الإيمان العام باتجاه الحركة، والثاني دفع الاشتراك، ومن المؤكد أن هذا الفهم هو الذي جعل الجماعة تتقلب من جبهة ميثاق إلى اتجاه إسلامي، إلى جبهة إسلامية، وإلى صور أخرى متتالية، وكانت هناك عملية تخفيف مترافقة لمستوى الالتزام بالفكر والتربية الإسلامية. * إذا تحولت الجماعة لجماعة صفوية كيف يمكن أن تغيير الواقع؟ - "شوف".. تغيير الواقع أنت غير ملزم به، وليس المسلم ميكافيليا يغير كل شيء في أفكاره ومواقفه من أجل تغيير الواقع، والأمر غير ذلك؛ فالله يريد منا أن نبذل جهدنا، ونريه من أنفسنا خيرًا، والله تبارك وتعالى يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ}. والآن الناس الذين ينتمون للحركة الإسلامية يعتقدون أنهم مسئولون عن الإسلام، وأن الذين خارج الحركة الإسلامية هم أقل إسلاما منهم، ويصل بهم ذلك إلى نصب الحركة وثنا. * تجربة المودودي بسمتها التربوي هل حققت نجاحات؟ - نعم، حققت نجاحات؛ فقد غيرت الأمة الباكستانية، وبعض التقاليد والممارسات التي كانت وسط الباكستانيين ما تغيرت إلا بفضل حركة المودودي، وهي حالة تغيير دون سلطة، وهنا تظهر أهمية القدوة؛ فقد كانت القيادة السياسية تستشير المودودي.. هو فرد بلا سلطان، ونحن نحتاج لقيادة بهذا الشكل. المودودي كان زاهدًا يسكن في مركز الجماعة، في غرفتين ملحقتين بالمركز، يسكن هو زوجته في واحدة ويستعمل الأخرى مكتبا، ويستقبل ضيوفه في صالة صغيرة في النهار، وفي حديقة المركز في المساء، وليس له سيارة سوى سيارة الجماعة، وكان يدفع قيمة أجرة السيارة إذا استقلها في مشوار خاص؛ ولهذا أحبه الناس. بين الصوفية والإخوان * هل الالتزام بطريقة صوفية وأورادها وتقاليدها هو سمتك في الالتزام الصوفي الجديد؟ - لا، ليس هذا هو الشيء الأساسي، تجربتي الشخصية تقوم على ضرورة أن يكون هناك قدوة، تراها بعينك، إذا كنت تريد الترقي الروحي فلابد من موجه مرشد، وللأسف الآن هناك ندرة شديدة في الشيوخ المربين، ولكن لو وجد شيخ يتخلق بالصفات التي يحبها الله ويطلبها من الناس ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)). [صحيح البخاري: 6021]، فإذا أصبح هناك شخص بهذه المواصفات فهو جدير بمنصب الإرشاد والتوجيه والقبول به قدوة. * يقتدى بالشيخ الصوفي في ماذا ولأجل ماذا؟ - الشيخ الصوفي الحقيقي هو معالج نفسي؛ يعالج أمراض الناس الروحية، ويخلص نفس المريض من العلل والمفاسد الروحية كحب المال، والرغبة في الشهوات، وغيرها من الأمراض. * هل اتباع هذا الصوفي المربي شرط ضروري للأفراد في سيرهم الدعوي؟ - ليس ضروريا أن يكون لك شيخ، ولكن من الواجب أن تنقي نفسك من أمراضها، وإن عجزت عن تطهيرها فمن الأفضل أن تبحث عن مربي روحي. * على المستوى الشخصي هل وجدت القدوة؟ - نعم وجدتها، وجدت أناسا الدنيا بالنسبة لهم ساعة من الحياة الدائمة مع الله، ولهم أخلاق عالية، وصبر على مشاكل الناس، ويعالجون أمراضهم الروحية، وأنا اختصاصي نفسي وقد استفدت منهم، واستفاد طلابي من ورائي مما استفدته من هؤلاء، فمثلا كنت أجد مصطلحات (روح) و(نفس) في كتب الإمام الغزالي وأبي الحارث المحاسبي، وكانا يتعاملان معها على أساس أنهما بمعنى واحد، ولكن تختلف باختلاف الوظيفة، ولكن شيخا صوفيا سودانيا علمني الفرق بين الروح والنفس مثلا، والفرق الدقيق بينهما، برغم أنه لم يدرس دراسة متخصصة في علم النفس مثلما درسنا، أخبرني هذا الشيخ أن هناك فرقا بين الروح والنفس، وأن الروح هي من أمر الله كما قال القرآن الكريم، والروح هي التي توجه الناس للخير، وتأتي في التعبير عن سيدنا جبريل والقرآن وغيرها من المعاني الفاضلة؛ ولهذا لا تجد آية قرآنية تأتي فيها الروح في مقام الذم.. وأما النفس فهي المكلفة {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}، ولهذا جاءت في القرآن في سياق المدح والذم. * هلا تفضلت علينا وعرفتنا بهذا الشيخ الصوفي الذي اتخذته قدوة؟ - هناك رجال لا يحبون إظهار أنفسهم للناس؛ فالناس يجرون وراء من يظهر لهم خوارق العادات. * إلى أي طريقة صوفية انتميت بروفيسور مالك؟ - القضية ليست في الطريقة إنما في الشيخ المربي، فإذا وجد في هذه الطريقة أو تلك فأنا أحرص على الاتصال به والاستفادة من قدراته التربوية الروحية. * إلى أي طريقة ينتمي شيخكم الآن؟ - إلى الطريقة القادرية. * هل ما زالت لك صلة بالإخوان المسلمين الآن؟ الإخوان المسلمون هم أصدقائي، وهم الذين أعادوني من الفكر الغربي إلى الفكر الإسلامي، وعلى أيديهم تعلمت الكثير، وحبيبنا الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد، أعتقد أنه صوفي بأخلاقه وزهده وسمته. * أعني هل لك صلات تنظيمية معهم؟ - تنظيميا.. أظلم الجماعة إذا حاولت ربطها بفكري وتصوراتي، وعندي اعتقاد بأنه لو كان هناك أفراد لهم قدرات خاصة في جانب من الجوانب فعلى الجماعة أن تخفف عنهم الارتباط التنظيمي بها، وتتركهم لما هدوا له؛ وهو ما فعله العلامة المودودي مع الشيخ محمد مصطفى الأعظم حينما لجأ إلى باكستان من مصر؛ حيث أعفاه المودودي من كل الأشغال التنظيمية، وتفرغ هو وابنه لحوسبة الحديث النبوي، وقد نال على هذا المجهود المبارك جائزة الملك فيصل.. فلو اشتغل هذا الرجل ب(الأسرة)، و(الكتيبة)، و(الجوالة)، فمتى كان سينجز هذا؟! * هل نفهم أنك ابتعدت عن التنظيم؟ - وقتي كله وجهدي مركز على أبحاث الأسلمة وأبحاث أخرى، ولله الحمد ما كتبته ترجم إلى لغات كثيرة؛ إلى التركية، والإندونيسية، والعربية، والبوسنية، وبعضها ترجم إلى السواحيلية، والإنجليزية.. وبعضها كتبته في السبعينيات وما يزال يعاد طبعه. وأعتقد أن العمل للإسلام العام أهم من العمل للتنظيمات، والتنظيم أحيانا يكون قيدا.