في بداية مفاوضات الفرقاء الجنوبيين، أواخر يونيو الماضي، كتبتُ أن وسيط السلام، أيّ وسيط، لا تخرج تصوّراته للحل عن تجاربه وما يؤمن به من وسائل لتحقيق السلام، إضافةً للفائدة المرتجاة من هذه العملية. قد تكون فائدةً مباشرةً تجنيها الدول الوسيطة، أو عامةً بتوسيع رقعة السلام العالمي. وبالتالي، لا يستطيع الوسيط تجاوز مفهومه السلام وأهدافه. في مفاوضات أبوجا للسلام، تعامل الوسطاء، خاصةً ممثِّل الإدارة الأمريكية، روبرت زوليك مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية وقتها؛ ببراغماتية تَسِم السياسة الخارجية الأمريكية، وأدَّت جهوده للضغط على أحد أطراف التفاوض، في اللحظات الأخيرة، بالترغيب وتقديم التعهدات، فكان أن وقَّعت حركة واحدة على اتفاق أبوجا للسلام، في مايو 2006م، وكان الاتفاق مدخلاً لتصفية قضية دارفور. بعدها بقرابة الشهر، تقدَّم زوليك باستقالته من منصبه، قائلاً (لقد نفَّذت ما خَطَّطت القيام به، وآن أوان التنحي جانباً)، ويعتبر اتفاق أبوجا أبرز إنجازاته. أرادت الحكومة من توسطها بين فرقاء الجنوب، تحقيق إنجازٍ دبلوماسيّ، يرفع من معنوياتها، في الظروف الصعبة التي تمر بها، وهدفت قبل ذلك، لتوفير مصدر إيرادات، يعينها في أزمتها الاقتصادية الحالية، لذلك، ومنذ بدء التفاوض، بدأ مسئولون حكوميّون الحديث عن قرب تدفق بترول الجنوب عبر الأراضي السودانية، محددين حجم الإيرادات التي سيجنونها منه. تسلَّمت الحكومة مهمة الوساطة، بإشراف الإيقاد، وعينها على بترول الجنوب، متسلَّحة بتجاربها في اتفاقيات سلام يصعب إحصاؤها، وقَّعتها مع معارضين لها، بالتركيز على تلك التي وقعتها مع المجموعات المسلحة. في كل تلك الاتفاقيات مثَّلت الحكومة الطرف الأقوى، الذي يرى ضرورة الضغط على الطرف الآخر للحصول على تنازلات، وقد ظلت الحكومة دوماً، تجد من يضغط على غرمائها، بدوافع مختلفة، لتنال منهم ما تريد. في مفاوضات الجنوب، رفض رياك مشار زعيم الفصيل المعارض الرئيس أمس الثلاثاء، التوقيع على مسودة الاتفاق، لأنها تمنح حكومة الجنوب حق اتخاذ القرار، في بند تقسيم السلطة والحكم وكيفية اتخاذ القرار، كذلك رفض مقترح الطرف الحكومي بجنوب السودان، فيما يتعلق بإنشاء لجنة وطنية لصياغة الدستور، مطالباً بعقد مؤتمر دستوري. الحكومة السودانية، ورغم العلاقة التاريخية التي تربطها مع مشار، لم تنسَ تجاربها في التفاوض، فاعتمدت سياسة الضغط على المعارضة، ثم تكملة الأمر على طريقة (دفن الليل أب كراعاً برَّة)، فهي ،وإن رغبت في تحقيق السلام بالجنوب ، لأسبابٍ تخصها ، لكنها توسلت لإنجازه بالطرق الخاطئة التي خبرتها في تجارب اتفاقياتها السابقة . قد يوقّع مشار على المسودة غداً الخميس، كما أعلنت الخارجية السودانية، بعد منحه ضمانات يعلم جيداً أنها كشيكٍ بلا رصيد، لكن يبقى اتفاق سلام الجنوب خلاصة لسنوات الإنقاذ في عقد الاتفاقات الفاشلة، التي تنتهي بالعودة للحرب، بعد إنهاك الخصم بالاستقطاب والتقسيم.