يقول نبيل غورسيل (روائي / ناقد تركي – في مقدمة روايته – صيف طويل في اسطنبول) (.....إن المجتمع حين يكون في حالة تبدل قصوى يخلخل الأفكار ويصبح من المستحيل تجنب الإغراء، إغراء الراديكالية والتطرف، يجد الوجدان نفسه منجرف في قلب زلزال شديد، متناثرا شظايا، و إذا كانت الهزة الأرضية عنيفة جدا فمن يستطيع أن يزعم بان آلات رصدها لن تتوقف ؟) في الأسابيع الماضية مرت الذكري الثالثة والعشرون للانقلاب العسكري في السودان بتدبير حزب الإخوان المسلمين، 30 يونيو 1989. مرت ذكرى الانقلاب هذا العام من غير ضجيج وهي تتوارى عن الأنظار خجلاً، و حيث أن بيضة العسكر لا تفقس إلا الخراب في كل مكان، قد يتساءل المرء على الأقل بتهكم ً كيف لنظام بدأ بشعارات أخلاقية أن ينتهي إلى مآلات لا أخلاقية ؟. يبدو أننا سنطرح أسئلة أكثر من أن نقدم أجوبة يغنينا عن ذلك فشل المشروع برمته. هل يكفي الوازع الديني فقط ليكف الناس عن ارتكاب الأخطاء؟ هل حسن النية وسمو المقصد تكفيان لتبرير الأخطاء؟. و من جهة أخرى هل أن سقوط المشروع الاسلاموي في السودان في المحصلة النهائية يمثل هزيمة ماحقة للعقل الاستيهامي غير المنجز إلا في تصوراته داخل اللغة؟ إن مبدأ الرصانة والوقار الزائف والورع المتكلف الذي هو غلاف النخبة الحاكمة (نظام الولع الأخلاقي) في محاولته لدفع المجتمع لقيم المثال ساق المجتمع بقدرة فائقة إلى قيم الضد تماماً. هل هذه هي الأخلاق في محاولتها لتنشئ مجتمع الفضيلة و ليست الإنسان في محاولته أن ينشئ مجتمع أخلاقي؟ أم أن ما حدث في السودان لا يعدو أن يكون إلا احد مظاهر العقل الجمعي الارتكاسي ذو القدرة الكامنة على تكرار نموذج دولة الدراويش و أن المجتمع السوداني لازال يعتمد مبدأ الخطأ والصواب لاكتساب المعرفة غير آبه للتراث الحقوقي والعلمي الإنساني ؟ إن الإنسان و منذ خروجه من دائرة العوز الإنتاجى ومن ثم تجاوزه لمحدودية عمل يديه و تسخير الطبيعة لخدمته، بدأت تتمثل الحياة التي صنعها بنفسه أمام عينيه واخذ بنفسه يتغير في شكل قفزات كبيرة فاجأت أحيانا كثيرة محدودية تصوراته للمستقبل. كما أن المثول العيني لانجازات البشر في تبديه الموازى لوجودهم يعود بانعكاساته فيساهم مرة أخرى في زيادة مدارك الإنسان في علاقته بالوجود المادي حوله مما يعني أن ما نصنعه بأيدينا من انجازات مادية يعود فيؤثر فينا و يرتب صياغات جديدة و أكثر تطورا و منهجية لحياتنا هذا لمن يتتبع و يقتفي آثار الإنسان عبر التاريخ وليس لمن يركض خلف المظان الايدلوجية. إن الفكرة لا يمكن تمثلها ماديا إذا كانت محض نشاط ذهني لا واقعي و لا تتعدى حيز الدماغ الذي أنتجها، و الفكرة عندما توضع على الأرض و تفشل في التوائم مع الواقع وتتبدد تصبح مجرد غبار ذهني، أو تنقلب ضد أهدافها المأمولة وتصبح معول تحطيم وبكامل فتوتها تهندس لتخريب واعي. إن السلطة الدينية للفكرة تنتخبها للتتجاوز المكان إلى المطلق و اللامتناهي و العلوي و تحررها من مثولها الحسي لتصبح كائن أثيري لا محدود و من هنا تبدأ في الهيام بلا واقعيتها و في الانحراف للتأسيس لانفلاتها المريض. ثم تحل الفكرة مكان الذات بشروط الكائن الحي المعقد الخواص (الشخص حامل الفكرة) و تتقمص معتنقها فيحل فيه المثال هدف الفكرة، و تتمشي الفكرة بين الناس على قدمين (الفكرة/الذات) تحشد الزمن دقائقا و ثوان لتعجل الوصول للتحقق، و في سعيها المحموم تنظر إلى البعيد إلى مدينتها الفاضلة حيث يبهر الضياء عينيها و لا تنظر إلى الأسفل حيث يجب أن ترصف المعبر الذي يؤدى إلى حلمها المقدس مثل فراشة حمقاء تقع في سوء تقدير مصدر الوهج، وعندما تلتهم الفكرة الذات التي أنتجتها لا تتوقف عند هذا الحد وإنما تقوم بعملية إزاحة وإحلال قيمية (الفساد الإيديولوجي/ فقه الضرورة). لقد بدأ النظام حكمه بحشد الآلاف من كوادره لتسيير دولاب الدولة ليس بدعاوي الموالاة فقط و لكن لإيمانه الصادق بنزاهة و تجرد أفراد هيأهم و دربهم روحيا وتنظيميا لانجاز مشروعة المقدس و يحلم منذ عقود بان تؤول إليه السلطة لينفذ مشروعه و ليدحض افتراءات العلمانيين بعدم إمكانية قيام سلطة دينية لأنها حسب العلمانيين تفضي إلى العنف و الفساد و تحمل جرثومة فناءها في داخلها (دولة الخلاف، بكسر الخاء، و ليست دولة الخلافة). إن علاقة الإنسان الفرد بالآخرين أو حتى الأشياء تخضع لعوامل متعددة و متحولة وشائكة ترجع لطبيعته منذ نشأته المبكرة و المؤثرات التي صاحبت نموه و صبغت تكوينه العقلي والعاطفي ثم تعليمه و تجربته الحياتية و مبادئه وأفكاره ونظرته الشاملة للحياة كل ذلك و هذا الإنسان قابل للتحول و التبدل تتقاذفه الحياة أينما ذهب. كما أن الآخرين في تفردهم مختلفين عنه تماما، عليه لا يمكن الركون إلى الحدث والفطنة و قوة الفراسة في تحديد ما يضمره من سلوك آني أو مستقبلي و على ضوئه نصبح مندفعين إلى وضعه موضع الثقة و الأمانة. إن الناس في حركتهم يجب التعامل معهم كمجاميع و ليست كأفراد، و الناس في تنوعهم مثل بصمات الأصابع لا يمكن أن تؤطر وتضبط حركة الأفراد ومعالجة اختلالات سلوكهم و تصنيف جدواهم الاجتماعية كل على حدة، أما كمجاميع فيمكن صياغة مرجعية ذات نفوذ تجريدي (نصوص القوانين) في علاقتها بالفرد الغير مقيد بمكان أو زمان أو صفه تعريفية شخصية. و في عموميتها هذه تساوى بين أفراد المجتمع و تضعهم سواسية أمام منصة الاستحقاق و تتجاوز فروقهم العرقية والدينية والجغرافية وتحاسبهم أولا وأخيرا كأناس. إن أي تغليب لسمات تميز (مفترضة جزما) عرقية /دينية /جغرافية، تسعى لتفريد المجتمع و خلخلة تماسك بنيات شرائحه الاجتماعية التي عضدتها علاقات العمل والإنتاج والهجرات والتزاوج تؤدي إلى تأليه الفرد و تميزه بالصفات الغير واقعية التي تؤدي إلى هيمنة الشعور بالاستعلاء ونعرة التفوق و احتقار الآخر. لذلك العقيدة الاجتماعية (المدنية) هي من أهم سمات هوية المجتمع المتعدد الأعراق والأديان وهى ليست بديل للعقيدة الدينية و لكنها في ابسط معانيها تسعي لمس جذور العصب المؤثر لوحدة وجدانية موضوعية تغذى نمو الخصائص المشتركة و تدفع بصراع الاختلاف إلى ميادين السلم. إن (الضمير) كما يصطلح على تسميته الناس عامة في قصدهم لتوخي الاستقامة في الأعمال والمعاملات، هو مجرد افتراض ساذج، إن المجتمع (الأخلاقي) هو من يتسابق أفراده لإبراء ذممهم و للإفراط في النزاهة لان الضمير الاجتماعي فيه نفذ من حيز التطبيق العياني إلى الحيز الطوعي. لتصبح بذلك النزاهة والتجرد في خدمة الوطن شارات نبل و شرف يتسابق لنيلها أفراد المجتمع وعند ذلك فقط تصبح الاستقامة الاجتماعية ثقافة تتنفسها رئة المجتمع المدني الحديث. إن الأخلاق قيمة متحولة و نسبية و إن كانت ضرورة أزلية وهى ساحة للصراع الفكري عبر التاريخ ترقى و تهبط ضمن حركة المجتمع في سبيل تدافع فئاته وشرائحه المتنوعة من اجل الوصول إلى ارقى قدر من الانسجام والتسامح لقضاء حوائجه الحياتية بدون اللجوء للعنف أو الطرائق المنحرفة للوصول لهذه الحوائج. وعندما يستقر المجتمع في علاقة حراك تبادلي سلمي لأمد طويل يصبح هذا الاستقرار نتاج تراكم درب و حكيم للخبرة الإنسانية في ترقيتها لتجارب الخطأ والصواب وصولا إلى أفضل الخيارات العلمية الحديثة لأسس التفاعل الاجتماعي كسقف لتجربة الحضارة الإنسانية منذ آلاف السنين والتي هي ملك لكل الإنسانية. إن الإنسان منذ بدايات تخلقه الفكري و تطلعه ليقين ما ورائي ليوازن عجزه وقصوره في مواجهة قوى الطبيعة و تلبية حاجاته الحياتية، اكتشف مبدأ العقاب كرادع للشطط والجنوح الكامن في طبيعة الإنسان، و قد ساهمت الأديان في وضع الأسس المنظمة للعلاقات الاجتماعية. الرادع (الضميري) هو إما رادع ديني أو رادع ثقافي إنساني تربوي لا ديني وتكاد حدود التماس معدومة بين (الرادعين). الرادع الديني هو رادع غيبي يعزز النزوع الإرادي للفرد لتخير سبل الخير و السلم و النزاهة دائما لقضاء حوائجه ، والرقابة هنا ليست رقابة اجتماعية اي رقابة متشيئة آو ماثلة حيزا ووجودا (قانون) ، والعقاب هنا هو عقاب مؤجل و القصاص يمكن أن تسقطه التوبة (المعنى هنا الحق العام). إذا جردنا الجرم العام من تفاسيره القانونية الحديثة يصبح هو (تجاهل وجود الآخرين و مصادرة حقوقهم و حرياتهم) إذا كان ذلك بممارسة العنف حيالهم آو باستقلال عواطفهم الدينية آو ظروفهم. إذا لا يمكنك أن تبني مجتمع على الأخلاق و لكن بإمكانك أن تبني مجتمع أخلاقي لان الأخلاق منتوج إنساني. يمكنك أن تبني مجتمع يراقب أخلاقة و ينمي و يطور أسس الحفاظ عليها بتدابير أرضية يمكن تطويرها باستمرار ومراجعة أوجه قصورها. إذ أن المجتمع بمؤسساته هو الضمير الأرضي الذي يراقب قصور أفراده و يصحح أخطائهم و عندما تثمر هذه المؤسسات أجيالها اللاحقين يصبح الضمير الاجتماعي مستبطن داخل كل فرد من أفراد المجتمع و يصبح الخضوع لمشيئة وقوانين المجتمع المدني ثقافة مطبوعة. إن حسن النية و سلامة المقصد لا تعني إلا صاحبها فقط لأنها لا تقيه من الوقوع في الأخطاء. ذلك أن حماسك و اندفاعك أحيانا لا يعنينا في شيء طالما انه لا يمثل إلا الرعونة و قصر النظر. إن الوازع الضابط للسلوك في علاقة البشر اليومية يجب أن يصنعه البشر أنفسهم و يراقبون الخلل في تنفيذه و يخلقون المؤسسات المختصة بذلك و لا يتركون الأمر لهوى الأفراد، إن الأشخاص الذين يخضعون سلوكهم لرقابة ضمائرهم هم قلائل و لا يمكن أن تحس بوجودهم عادة إذ أن نفس هؤلاء الأشخاص لا تكفيهم رقابة ضمائرهم من السقوط في الأخطاء الغير متعمدة و لكنها ذات آثار وخيمة على المجتمع. إذا رقابة الضمير لا تكفي وحدها و لكن التحديد الدقيق للمسئولية و اليقظة العامة يمكن أن تتلافي الأخطاء الفردية قبل وقوعها ، فالضمير هنا حاضر دائما لحما و دما و عقابه غير مؤجل و بالمقابل منبه بيولوجي داخل كل فرد مسئول ينظر حوله دائما و يراجع خطواته قبل موضعها. التدين مورد محفز للقيم و الاستقامة بينما الفرد في ذاته قيمة متحولة و نزوية و من منطلق الملكية والنرجسية يغدو نهبا لظنون الكمال و التسيد حالما يحل فيه الضمير الإيديولوجي التبريري رغم أن كل امرئ خطاء بطريقته الخاصة بما في ذلك من يدعون بأنهم أكثر الناس طهرا و تقوى، لا يعتمد الأمر على ما يظنه المرء خطا أو صواب إنما على مدى إيمانه بما يفعل، كثيرا من الناس يقترفون ما يظنون انه لا تشوبه شائبة بينما يري الآخرون أنهم مغرقون في الأخطاء ، هذا بالرغم من أن الجميع يردون من منبع قيمي واحد لان القيم والمثل و الشرائع التي تشكل الضمير السلوكي في حالة هؤلاء تصبح ملكية شخصية يسقط عليها الفرد دوافعه المواربة. المقال منشور بالتعاون مع مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org كاتب سوداني