من المسلمات السياسية في السلوك السياسي للإدارات الأميركية أن الدولة العظمى لا تخطو خطوة إلا إذا كانت لها فيها مصالح مترتبة, وفي سبيل ذلك فإنها لا تكترث للضحايا الذين يموتون بصورة مباشرة أو غير مباشرة من أجل تحقيق مصالحها, وذلك ما يجعلها قوة غير أخلاقية بامتياز, ولعلها أحد أسوأ القوى العالمية عبر العصور, فذهنية المصلحة التي تستخدم العنف والعداء, خشن أو ناعم, تسيطر على أسلوب الممارسة السياسية لأي إدارة أميركية, ولذلك من السهل على موظفيها وقادتها أن يكذبوا ويغيروا الحقائق ويشوهوها ويطالبوا العالم بتصديق رواياتهم على نحو ما فعل كولن باول في موضوع يورانيوم النيجر في سياق تبرير بلاده للحرب على صدام حسين والعراق, وهو ما ثبت تلفيقه لاحقا, وكانت النتيجة موت وتشريد ملايين العراقيين وانهيار الدولة التي لم يصلح حالها حتى اللحظة. لم يوجد أبدا من يحاسب الولاياتالمتحدة الأميركية على أخطائها وانتهاكها لحقوق الإنسان بصورة مقلقة للضمير العالمي, وهي لم تعترف حتى من وراء القناع الأخلاقي بأي نتائج سلبية ضارة بالبشرية لممارساتها وتدخلاتها في دول العالم من أقصى الشرق الى الغرب, وذلك كان تأسيسا غير قويم لواقع غير أخلاقي نتائجه تلك الحروب المباشرة أو بالوكالة التي تنتهي الى المصلحة الأميركية, ولا يجد مسؤولوها في البيت الأبيض أو البنتاغون أو مجلس الأمن أو الأممالمتحدة حرجا في الكذب والإتيان بما هو غير منطقي ولا يتفق مع العقل لتبرير فعل معلوم النتائج الضارة بشعوب العالم والجالب لمصلحة الولاياتالمتحدة على حساب أرواح ملايين البشر ومستقبلهم وأمنهم واستقرارهم, ومن يكون حليف أميركا اليوم فلا يستبعد أن يكون عدوها غدا والعكس. لدى المسؤولين الأميركان وفقا لهذا النمط السياسي والفكري القبيح طاقة خلاقة في ابتكار المبررات والكذب والتحايل واللعب بمصير الشعوب, وفي أحاديثهم دائماً لغة متعالية وكريهة يشمئز منها الشخص حين ترى أولئك الساسة الذين يهبطون هنا وهناك بياقاتهم البيضاء, فإنهم في الواقع إنما يأتون بكوارث هي عبارة عن مطالب بصيغة أوامر تتعارض مع مصالح الشعوب وتتفق مع المصالح الأميركية, وكثير من حلفاء أميركا إنما هم مكرهون ومضطرون للتحالف معها وليس لأن ذلك يضمن لهم مصالحهم التي تتواضع أمام القدر الهائل من المصلحة التي تجنيها الولاياتالمتحدة ممن تزعم أنهم حلفاؤها, ما يجعلها امبراطورية تنتفخ بالمتضادات الأخلاقية والمادية, حلفاء يكرهونها وفي الوقت نفسه يوالونها, ولذلك لا يمكن أن تكون العلاقة بالولاياتالمتحدة متوازنة ومستقرة, وليس هناك ما يبقيها قائمة سوى الضغط الذي تمارسه على الطرف الآخر. في السودان لم تكن العلاقة مع أميركا مستقرة أو ترقى للعلاقة الديبلوماسية الطبيعية, ولذلك أسباب كثيرة ومعقدة, ولكن على الدوام لم تكن الولاياتالمتحدة دولة في مسار أخلاقي يؤهلها لأن تتعامل معاملة الند مع السودان كدولة ذات سيادة, وذلك خلاصته في الطبيعة الكولونيالية التي تصنف فيها الإدارات والمؤسسات الأميركية هذا البلد الذي تفضل استباحته بدلا من احتوائه, ورغم أنه في إطار مهني سياسي هناك احترام نسبي لاستقلالية حكومة السودان, إلا أن ذلك ليس مطلوبا لأن الإدارات الأميركية تفضل أن يظل السودان مرهقا بحروبه الداخلية ومستنزفا في امتداد للرؤية والتصور الإسرائيلي والصهيوني له, وذلك يفسر ويبرر تناقضات مبعوثي الإدارة الى السودان الذين يقولون حديثا في الخرطوم وعندما يغادرونها يقولون حديثاً آخر, وأولئك المبعوثون إنما هم دجالو سياسة يظن أحدهم أنه الحاكم العام للسودان والمنهج الاستعماري ذاته يأتي إلى الخرطوم ليملي ويوجه ويقود الدولة ولذلك فإن السمة البارزة لشخصية المبعوث هي خليط من عدم الموضوعية والتوازن والاتزان وعدم الفهم الدقيق للمجريات السياسية والمجتمع ومكونات السودان وعدم الاحترام الكافي والضروري لحكومة البلد لإنجاز مهمته فيصطدم بحزمة أفكار تهز فكرته الأساسية السلبية عن دوره كمبعوث. أندرو ناتسيوس مثال للسياسي المتسلط والغليظ الحس السياسي الذي كغيره من المبعوثين والمسؤولين الذين يضعون رؤيتهم وتوجههم في السودان على خط سكة حديد يتجه بالحوار والمنهج والتعاطي المنطقي مع المجريات في اتجاه آخر بعيدا عن المحطة التي ينبغي أن يقصدها, وهو كغيره غير متوازن وليس متزنا ويميل الى أن يضع مصلحة بلاده ودولة الجنوب قبل مصلحة السودان, ويتضح ذلك في منهجه الفكري الذي ترجمه في مقالة آخيراً له والذي ينتهي بها الى تصوير السودان منهاراً أسوة بالجنوب وأنه السبب في ذلك وأن الرئيس البشير مصاب بسرطان الحنجرة والقرار بيد قلة متنفذة من الضباط الصغار, وأنه يمكن لبلاده أن تدعم جنوب السودان بأسلحة متطورة تجعل ميزان القوة يميل لمصلحتها. وخلاصة المقالة أنها "خطرفات" سياسية غير موضوعية ولا تليق بسياسي محترم ينبغي أن يرتفع باحترام نفسه الى أكبر من هذه الترهات التي يمكن أن يفكرها أو يفكر بها سياسي مبتدئ, وفي الواقع ليست هناك دولة في جنوب السودان حتى يمنحها أسلحة متطورة, وعندما يجد هذه الدولة ونأمل أن يجدها ولو بعد حين, يسلحها لتخوض حربا بالوكالة مع السودان ثم تهزم, ثم إن السودان ليس جمهورية موز ولديه مؤسساته وتجربته ومعرفته الواسعة بالمحيط الأفريقي من حوله, ويبدو الأمر أن أميركا بحاجة إلى تجييش كامل أفريقيا حتى تضمن تحقيق انتصار لها في السودان, ولذلك من المهم أن نخلص الى أن مسؤولي الإدارة الأميركية ومبعوثيها لا يفهمون شيئا عن السودان إلا بالقدر الذي تقدمه تقارير مضللة من عملاء ومأجورين, سواء داخل السودان أو خارجه وذلك لا يصنع رؤية كافية لتقييم الأحداث وتفاعلات المشهد السياسي السوداني الذي لا يكون بهذا التبسيط المخل الذي يسطح تعامل أميركا مع السودان والتي إن كانت جادة عليها أن تضع مسؤوليها في اختبار السودان بكل تفاصيله قبل أن تبعثهم حتى يمتلكوا الموضوعية والاتزان والتوازن قبل مباشرة أي مهمة في السودان. السياسة الكويتية *كاتب سوداني [email protected]