يخطئ من يعتقد أن خيارات المجتمع والدولة المعاصرة، هي ذاتها خيارات المجتمع التقليدي، أو الدولة ذات السمات والطابع التديني، ذلك أن الخيارات المعاصرة تتناقض وتلك التي سادت يوماً في فضاءات مجتمعات تقليدية، لم تخرج من شرنقة خطاب تديّني، لم يكن ليسمح بالتفكير حتى في شؤون لا تجد ما يسندها في المرجعيات الدينية. وفي ظل تعدد الخيارات الممكنة وتنوعها، مما لا يضاد أو يتناقض مع محدودية الخيارات الدينية أو التدينية الخاصة بأصحابها، ستبقى خيارات المجتمع والدولة الحديثة، أكثر تنوعاً وغنى، وهي تعالج كامل قضايا السياسات العامة وتشكيلتها، مع ضرورة الفصل التام بين الدين والسياسة. من هنا، يمكن القول إن الخطاب السياسي المتدين، وإن لم يكن ينتمي إلى فضاءات الدين، هو أقرب إلى فضاءات خطاب سياسي، يحاول المزج بين السياسي والديني، تسهيلاً للخديعة التي يقع فيها البسطاء والسذج من ذوي الثقافة الضحلة على كل الأصعدة، لا سيما وهم يعتقدون أن الخطاب السياسي الديني ينتمي إلى جنس المقدس. وإذا كانت الدولة مدنية بالضرورة، فمن الضرورة أن تكون مرجعيتها دستوراً حديثاً، أما خلط المرجعيات واعتماد ما هو ديني كمرجعية، بها يجري تفسير كل ما يتعلق بشؤون الدولة والمجتمع وقضايا السياسة والاقتصاد والتعليم والثقافة، فهذا إجحاف كبير، وارتداد إلى ماضوية كان المجتمع خلالها، يفتقد كل ما من شأنه أن يعينه إلى بناء ذاتي، يواكب مجريات الحياة المعاصرة وتطوراتها. من هنا، ضرورة إعادة صوغ العلاقة بين الدولة كمكون بنيوي مؤسسي ومدني، أي كدولة مدنية، والمجتمع كمجتمع مدني تسوده وتقوده السياسة، لا إخضاعات وإكراهات التدين، كما يفهمه بعض الأفراد الذين في قلوبهم وعقولهم زيغ الاستبداد والتغول السلطوي، وفرض مفاهيم أحادية لا تقبل الجدل أو النقاش من جانب أي آخر، وليس شرطاً الآخر البعيد، بل حتى الآخر القريب، حيث روح الفرقة المصطفاة (الناجية) هي التي تهيمن على الدوام في فضاءات الخطاب التديني لهذا أو ذاك، أو لهؤلاء وأولئك المتهالكين على سلطة استبداد خاصة باسم المقدس، من هنا ضرورة «نزع القداسة» عن خطاب «الإسلام السياسي»، حتى لا يبقى يختلط حابل الدين بنابل التدين، وحابل السياسة بنابل التسيّس. فما بين الاثنين بحار من دماء وجرائم ارتكبها، ولا يني يرتكبها أولئك الذين أضاعوا دينهم، فأحلوا مكانه تديناً خاصاً بهم، لا تعترف به كثرة من المتدينين! لقد فشلت تجربة «الإسلام السياسي» في السلطة، لأن بعض منظريه ومن لف لفهم من أصحاب المصالح الخاصة، وأصحاب الأفكار الفئوية، استمرأوا خلط السياسة بالدين، في وقت مارسوا السياسة وأسبغوا عليها من «القداسة» الكثير، وهذا زيغ مخالف للدين وللسياسة. وطالما استمر هذا الخلط المتعمد، لن يكون «الإسلام السياسي» قادراً على الحكم، لا سيما وهو يضع نصب عينيه أيديولوجية معادية لثقافة التعددية، وللفكر وللدولة وللحقوق المواطنية المتساوية. لهذا ستبقى تجارب «الإسلام السياسي» تنتهي إلى الفشل، مع ما يعنيه ذلك من تدمير للدولة وتفكيك للمجتمع، وما قد يسببه ذلك من حروب أهلية متناسلة، في كل مرحلة من مراحل التدمير الذاتي. * كاتب فلسطيني