في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي وفي الأيام الأخيرة لعهد مايو، ونحن في بدايات طريق الوظيفة مجموعة من أبناء دارفور، جمعتنا فكرة جاءت بسبب الأزمات التموينية والاحتقان السياسي الذي من بين مظاهره الصراع الذي نشب بين حاكم إقليم كردفان الفاتح بشارة، وحاكم إقليم دارفور أحمد إبراهيم دريج بسبب استيلاء الأول على حصة إقليم دارفور من سكر التموين أثناء مرور القطار بمحطة بابنوسة، واشعل الصراع والملاسنة بين الطرفين، ووصل إلى صفحات الصحف وعبر المؤتمرات الصحفية للحاكمين، وكنا بعض من وقود تلك الحرب من مكتب الأستاذ عبد الله آدم خاطر بعمارة الإخوة. وبعد تدخل الرئيس نميري لفض الاشتباك بين الطرفين جاءت الفكرة التي جمعتنا مع إخواننا في إقليم كردفان بانشاء شركة قابضة مشتركة تقوم بتمويل السلع التموينية والضرورية للاقليمين، الفكرة مرت بتطورات بعد التداول حولها داخلياً وخارجياً، حيث طرح السيد دريج قيام بنك على غرار بنك ناصر الاجتماعي أثناء زيارة المهندس عثمان أحمد عثمان وزير الإسكان المصري ورئيس مجموعة المقاولين العرب، وجاء ميلاد البنك الإسلامي لغرب السودان بمساهمة صغار المودعين واستهداف مشاركة أصحاب القضية من جماهير الاقليمين في رأسمال البنك لخدمة الاقتصاد والمجتمع. جاء البنك مساعداً للمستشار القانوني الموظف محمد بشارة دوسة في خطواته الأولى للوظيفة العامة، شاب رفيع مهندم وأنيق هادئ يتحدث همساًَ يجيد الاستماع العميق لمحدثه يتحلى بجدية ووقار، قل ما يوجد عندهم في سنة تلمست فيه الود، لأنه صاحب رسالة يميل نحو من يشعر إن له قضية يكافح من أجلها، ويومها كنت أحد أصحاب قضية البنك منذ الفكرة الأولى والانجاز تم موظفاً.كنت من بين من قصدهم مولانا دوسة يحمل موضوعاً حساساً، نقل لي انه سبق إن تقدم لوظائف ديوان النائب العام وبعد اجتيازه لكل مراحل التعيين، تم استيعابه مستشاراً قانونياً بديوان النائب، وسوف يغادر البنك ابتداءاً من اليوم التالي. قلت لمولانا إن هذه المؤسسة التي نعمل بها بعض من قضيتنا من أجل أهلنا الفقراء الذين ساهموا في رأسماله، وعلينا النضال لانجاح الفكرة ثم تحدثت له عن الامتيازات الوظيفية والمخصصات التي يجدها موظف البنك مقارنة مع موظفي المؤسسات الحكومية، وكانت اجابته الحاسمة في تنفيذ قراره بضرورة تواجده وبتخصصه ومهنته في الوظيفة العامة للاسهام والخبرة في مجالات العدالة والتشريعات، ولا يريد إن يحصر نفسه في الحفاظ على حقوق البنك فقط إنما العمل للحفاظ على حقوق الإنسان السوداني وبسط قيم القانون ومقاصد التشريع الإنساني في المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية في القطاع العام والخاص.قبل أسابيع قليلة وفى مناسبة اجتماعية التقيت مولانا دوسة وزير العدل، وتجاذبنا الحديث منفردين، استفسرته عن لقائه قبل يوم واحد مع السيد رئيس الجمهورية وتصريحاته عقب اللقاء ومن بينها تسمية أعضاء مفوضية حقوق الإنسان، وهى إحدى استحقاقات اتفاقية نيفاشا فى إطار الشراكة التصالحية بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، وذكرت للأخ الوزير بعض المخاوف التي سبقت الاستفتاء والترشيحات التي تم تقديمها لرئاسة الجمهورية من طرفي الاتفاقية، والتي حملت أسماء قيادات بارزة ولامعة تتولى مناصب عليا في الحزبين الشريكين، الشيء الذي يناقض قانون المفوضية ويصطدم بمعايير الترشيحات لعضويتها بما فيها معيار تمثيل كل أهل السودان ومراعاة جانب التخصص القانوني ومنظمات الحماية غير الحكومية.رد مولانا وزير العدل وهو يتحدث عن المفوضية جامعاً وملماً بكل تفاصيل القانون محدداً المعايير لدورها المستقل عن الأجهزة الحكومية والحزبية في تحقيق مرامى حقوق الإنسان، مؤشراً إلى استقلاليتها ودورها في الحماية والمناصرة الداخلية لأوضاع حقوق الإنسان، وتطبيق معايير القانون الإنساني الدولي ودورها الخارجي في التفاعل والمخاطبة مع المؤسسات الدولية والإقليمية المعنية بحقوق الإنسان، ومبدأ الاستقلالية عن السلطة الحكومية فإن المفوضية تجد الثقة في التعامل مع المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، والتي لها صوت مسموع في مؤسسات الأممالمتحدة، وبعد هذا الحديث العميق أكد مولانا إن اتجاهات المفوضية تجد الدعم من السيد رئيس الجمهورية وأجهزة الدولة.والموضوع الثاني فقد حملت لمولانا وهو العالم بالخطوات والانجازات التي قامت بها اللجنة القانونية الجامعة في مشكلة سوق المواسير، المشكلة الشهيرة والتي تم منع النشر فيها.لم يخف مولانا وزير العدل ارتياحه وتقريظه لعمل اللجنة خاصة سعيها لمعالجة قضية الشريحة المتضررة من صغار المتعاملين مع سوق المواسير، أصحاب الخمسة ألف جنيه أو العشرة ألف جنيه، ومن النساء والأسر الفقيرة التي ذهبت بمقتنياتها واثاثاتها الخاصة بحثاً عن تحسين أوضاعها مذكراً إن اللجنة قامت بالاولوية لهذا القطاع.عقب هذا اللقاء وفي اليوم التالي ظهرت القرارات التي أصدرها وزير العدل حول إقرار الذمة لشاغلي المناصب الدستورية والوزراء، وبتحديد فترة زمنية وعن عزم الوزارة لمواجهة الفساد، وسيادة القانون وتمكين العدالة واستعادة ثقة المواطن العادي في الأجهزة العدلية والقضائية.لقد تناول عدد من الكتاب مثل الأستاذ مؤمن الغالي وغيره، الخطوات الشجاعة التي أقدم عليها وزير العدل دوسة، مؤازرين ومنصفين وبمعرفتي له فإن العدل في السودان يشهد بدايات ثورة لم يعرفها في الفترات السابقة، وأن وزيرها صاحب قيم ومهنية وثقة في النفس وتجرد عن الغرض ومعاني نعيش عهداً جديداً في أساس الحكم. عفواً أيها القارئ فهذا المقال استثنائي لم يتعوده مني القارئ. ولله الحمد ،،،،