كغيري من السودانيين، أتردد على الصيدليات بنفس عدد المرات التي أزور فيها البقالات، فالدواء وليس الغذاء في حياة السودانيين أصبح مصدر الحياة، فمع تراجع وفرة الغذاء، وتدهور الرقابة والإرشاد الزراعي، وتردي البيئة وانتشار التلوث، أصبح بين كل بقالة وأخرى صيدلية، يمر السوداني على البقالة ولا تنسى ربة البيت أن توصي بعلها أو ولدها أن «يغشى» الصيدلية ويأتي لها أو لأحد أولادها بالدواء «الفلاني». فالأدوية في بلادنا تباع كما يباع الخضار أو اللحم أو العدس والفول، حتى لو كان الدواء مُصنفاً من منظمة الصحة العالمية من تلك التي لا يجب صرفها بدون «روشتة» أو وصفة طبية. وبما أن الأمر أصبح «عادة» وممارسة يومية لدى الناس - الأصحاء والمرضى- فإن أصحاب الصيدليات، الذين يهمهم أن تُروج تجارتهم ويتربحوا لا يترددون ولا يسألون من يطلب الدواء «الفلاني» -غض النظر عن خطورته أو آثاره الجانبية- عما إذا كا لديه «روشتة» تقرر له ذلك الدواء أم لا، بل يمد الصيدلي أو «البياع» يده إلى حيث يربض الدواء في أرفف الصيدلية، ومن ثم ينطق بالمبلغ المطلوب، وربما يقتصر سؤاله -إذا سأل- عن الكمية التي يريدها المشتري، هل هي «علبة كاملة» (كورس) بلغة الأطباء، أم شريط أو شريطين، حسب قدرته الشرائية، ولا يمانع أو يجادل أو يوضح للمريض أو المشتري ما يترتب على أخذ «جزء» من (كورس) الدواء المطلوب، حتى لو كان من فئة «المضادات الحيوية» التي تقول الثقافة الصحية إن اجتزاءها سيقود لمضار على صحة المريض وتضعف المناعة لديه وتجعله عرضة لهجوم أمراض أشد فتكاً وبلية لن يشفى منها إلا ب«مضادات» أقوى وأكثر، ذلك إن لم تلزمه «الفراش الأبيض» بإحدى المستشفيات. ما استدعى هذه المقدمة، بل هذه «الإضاءة»، هو الجدل القديم -المتجدد حول أسعار الدواء والرقابة عليه في المجلس الوطني (البرلمان)، والذي «كشفت» خلاله وزارة الصحة أن «55% من الأدوية أسعارها أعلى من السعر الحقيقي المحدد بواسطة المجلس القومي للأدوية والسموم»، وهي حقيقة لا تتطلب جهداً أو «شطارة» للاكتشاف، فخلال ترددي الراتب والمعتاد، كباقي أهل السودان، على الصيدليات، لشراء الدواء الذي أصبح صنو الغذاء، وجدت أنني كلما زرت الصيدلية لشراء الأدوية المقررة لي أو لشراء بعض «المسكنات» أو «المنظفات» التي يحتاجها أفراد الأسرة أو المنزل أن السعر يختلف- ارتفاعاً وليس انخفاضاً طبعاً- بين كل زيارة وأخرى، وهو غالباً لا يكون ارتفاعاً طفيفاً أو غير ملحوظ، وتتراوح نسبته بين 20و30%، في إحدى المرات أبديت دهشتي لأصحاب الصيدلية عن ذلك الاختلاف في السعر بين آخر زيارة وهذه المرة، ولم تكن المدة الزمنية بين الزيارتين قد تجاوزت أسبوعاً أو عشرة أيام على الأكثر، فما كان منهم إلا أن قابلوا دهشتي باستغراب من جانبهم، فقال لي أحدهم: إنت وين؟! فالأدوية ومحاليل النظافة والتعقيم تأتينا مع كل «كوتة» أو طلبية بسعر جديد، فلا تتوقع عندما تزورنا مرة أخرى أن تشتري ما تشتري بنفس السعر، وإذا كنت تريد أن تتفادى دفع المزيد «المرة الجاية» عليك أن «تشتري وتخزن»، فقط ننصحك بأن تراعي «مدة الصلاحية» وأن تحفظ ما تشتريه في مكان لا تزيد حرارته عن «30 درجة مئوية» حتى لا يفسد قبل أوانه. فوضعت نصيحتهم «حلقة في ودني» كما يقول المصريون، وبدأت اتصرف على هذا الأساس. نعود للجدل بين وزارة الصحة -هذه الوزارة «الغلبانة»- التي لا تكاد تخرج من مشكلة، كمشكلة الأطباء وتردي أحوالهم وأحوال بيئة عملهم الذي يقودهم بصفة دورية للتوقف عن العمل والإضراب، حتى تقع في مشكلة أخرى، لا تقل خطورة، هي ارتفاع سعر الدواء في بلد أكثر من 90% من شعبة يتقلَّبون على جمر الفقر والفاقة، فالوزارة -التي هي جزء من «الحكومة»- تشكو لدى البرلمان «الحكومي أيضاً» من ما تفرضه إدارة الجمارك، التي هي «الحكومة ذاتها» من رسوم على الأدوية تصل نسبتها إلى «23%»، وتقول بأن إلغاء الرسوم الجمركية المفروضة من «الحكومة» على الأدوية من شأنه تخفيض أسعار الدواء بين 20 إلى 30%، وإن تفعيل الرقابة من قبل المجلس القومي للصيدلة والسموم، الذي هو أحد أذرع «الحكومة» وتقوية إدارات الصيدلية «الحكومية» بالولايات يمكن أن يساهم في السيطرة على أسعار الأدوية. لكن بعض السادة النواب- وأغلبهم «تبع الحكومة»- عزا الأمر إلى «تأرجح سياسات الهيئة العامة للإمدادات الطبية وخلافاتها التي أثرت على إدارتها للأمر الدوائي بالبلاد، «وهي أيضاً هيئة حكومية»، وشددوا -كما تقول الأخبار- على (الدولة) بضرورة النظر في الرسوم والعوائد الجمركية المفروضة على الأدوية بتخفيضها للحد الادنى أو إعفائها، بجانب التوجه للتصنيع المحلي للتقليل من التكلفة والقضاء على عدم استقرار الأسعار». وانتهى الجدل «البيظنطي» إلى عدم قبول رد الوزير وإحالة الرد إلى لجنة الصحة والسكان والبيئة بالبرلمان. وإذا كانت الحكاية كلها «حكومة في حكومة» وزارة وبرلمان وجمارك ومجلس صيدلة وسموم و هيئة إمدادات طبية، فالأمر لا يحتاج لكل هذه «التمثيلية العبثية»، ويمكن الوصول لقرار من جهة واحدة أو جهتين معنيتين برفع الجمارك والرسوم على الأدوية وإلزام الجهات التي تتاجر في الأدوية بأسعار محددة لن تستطيع تجاوزها في حالة قيام مجلس الصيدلة والسموم أو وزارة الصحة بدورهما الرقابي. لكن من يقنع «الحكومة الأصلية» -التي تعيش على الضرائب والجبايات- أن تكف عن «عادة» إدخال يدها في جيب المواطن لتلتقط آخر قرش فيه، هي تفعل ذلك مع السكر والزيت والطحين، تأخذ عنها أكثر من الجهات التي تنتجها، وهي تفعل ذلك في الكهرباء والمياه، ومع ذلك يتحدث السادة النواب عن «التوجه للتصنيع المحلي للدواء»- يا سلام- وكأنهم لا يعلمون كلفة الكهرباء لصناعة الأدوية التي من مكوناتها الرئيسية الكهرباء، وكأنهم لم يسمعوا عن «مصانع بحري» التي تحولت بسبب الكهرباء وغلائها وعدم استقرارها إلى «مقابر للخردة».. فكله حكومة في حكومة.. «ومنك لله يا حكومة» كما يقول جيراننا في شمال الوادي!