اليوم هو التاسع من يونيو ومنه يبدأ العد التنازلي الأخير بالأيام للإعلان الرسمي والمراسيمي لولادة دولة جنوب السودان في التاسع من يوليو القادم، هذا التاريخ الذي ينتظره الجميع بفارغ الصبر، ففي الداخل ينتظره الجنوبيون بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم وقبائلهم، فهو يعني عندهم يوم عيد، حيث يرونه يمثل رمزاً للاستقلال والانعتاق من دولة السودان القائمة الآن، والتي كثيراً ما كانوا يتهمونها زوراً وبهتاناً بتهميشهم وإقصائهم عن دائرة الفعل وهضم حقوقهم، فهم يشبهون السودان بدولة استعمارية يتهيأون هذه الأيام للاستقلال عنها. وفي الشمال ينتظر الناس ذاك اليوم أيضاً بفارغ الصبر، وهذا الشعور لدى الشماليين لم يكن سائداً إلا في نطاق ضيق ومن خلال بعض المنابر التي نشأت حديثاً للدعوة والترويج لفكرة فصل الجنوب وذهابه إلى حال سبيله باعتباره ظل يمثل عقبة كأداء في طريق الشمال تعيقه وتعطل مسيرته نحو النهضة والتنمية في المجالات المختلفة سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، وكان الشعور السائد لدى الشمال قبل إجراء الاستفتاء وحتى بعد ظهور النتيجة هو الأسى والأسف على اقتطاع جزء (عزيز) من أرض السودان ليكون كياناً مستقلاً يتمتع بكافة ما تتمتع به الدول المستقلة ذات السيادة، دولة سيكون لها علمها وعملتها الخاصة ونشيدها الوطني، وتتبادل مع السودان الشمالي التمثيل الدبلوماسي أسوة بالدول الأخرى، ويكون لكل من الدولتين سفارة في الدولة الأخرى ويخضع مواطنو البلدين في حركتهم وتنقلهم فيما بين الدولتين للإجراءات التي تنظم حركة وتنقل وسفر الأجانب، وكان الناس بين مصدق ومكذب لمآلات الأمور فيما بعد الانفصال.هذا الأسف على ذهاب الجنوب الذي كان يشكل أهم ملمح من ملامح رد الفعل والتعاطي مع قضية انفصال الجنوب، قد بدأ مؤخراً في الخفوت والتلاشي بوتيرة متسارعة بسبب عدة عوامل وأحداث وقعت كانت الحركة الشعبية الفاعل الرئيسي فيها.أول هذه الأسباب على سبيل المثال لا الحصر، الإشارات الصريحة من جانب الحركة الشعبية بتحويل مسار ضخ النفط الجنوبي جنوباً لخنق الشمال وتفجير الأوضاع الاقتصادية وتدهورها فيه، وعدم إبداء أية نوايا للتعاون الاقتصادي مع الشمال وتطوير التبادل التجاري بينهما، كذلك فإن النزعة العدوانية التي ظهرت ملامحها بادية للعيان تجاه الوجود الشمالي في الجنوب خاصة فئة التجار، أعطت انطباعاً سيئاً عن صورة العلاقات الاجتماعية التي سيكون عليها الحال بعد تمام قيام الدولة الجنوبية، كذلك من الأسباب التي أدت إلى تراجع الشعور بالأسف على انفصال الجنوب، تلك التصريحات التي أطلقها عدد من قادة ورموز الحركة الشعبية وحكومة الجنوب عن نية دولة الجنوب القادمة إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وذلك الانخراط الإسرائيلي في الشأن الجنوبي والذي كشف النقاب عنه بواسطة تل أبيب في أكثر من مناسبة مما لم يعد خافياً على أحد تلك العلاقة الوثيقة بين الطرفين والتي بطبيعة الحال لن تكون في مصلحة الشمال، بل ستكون من أجل إضعافه وتدميره، كما أن مثابرة الحركة الشعبية على حشر أنفها وتدخلها الصارخ في الشأن الشمالي من خلال قطاع الشمال بالحركة، والذي تم إنشاؤه في تقديري ليقوم مقام (مسمار جحا) بعد أن (تنفرز العيشة) وتتمايز الصفوف ويصبح الجنوبي جنوبياً، والشمالي شمالياً، هذه المثابرة والحرص على تسجيل حضور دائم في الساحة السياسية في الشمال حتى بعد إنشاء الدولة الجنوبية، أعطى انطباعاً لدى أهل الشمال بأن دولة الجنوب القادمة ستكون مصدر زعزعة وقلق للأمن والاستقرار فيه، فزاد ذلك من إيمانهم وقناعتهم بضرورة لفظ هذا الجسم والقائه بعيداً باعتباره ورماً خبيثاً يُخشى أن يؤدي الإبقاء عليه إلى إيذاء باقي الجسم وانتشار ضرره إلى سائر أعضائه.. ثم كانت الطامة الكبرى بالاعتداء السافر الأخير من جانب الجيش الشعبي على القوات المسلحة في منطقة أبيي والذي شهد عليه العالم كله، ثم الاعتداء الأخير من الجيش الشعبي الذي حدث أمس الأول في كادوقلي وخلف وراءه قتلى وجرحى ولا أحد يدري ما سيؤول إليه الحال هناك وما تخبئه الحركة من نوايا سيئة ومخططات ماكرة لإشعال الحريق في هذه الولاية التي هي في موضع القلب بالنسبة للسودان الشمالي.والشيء الغريب في المشهد الحالي وفي سلوك الحركة الشعبية هو أنه من المفترض وقد اقترب ميعاد الإعلان الرسمي لانفصال الجنوب، أن يكون المشهد السياسي والأمني غاية في الهدوء، وأن تكون المظاهر الاحتفالية هي السائدة هذه الأيام لا المظاهر العدائية والتآمرية، فالمفترض والمنطقي أن يكون سلوك الحركة الشعبية في هذه الأيام سلوكاً مهادناً وتعاونياً ومرناً لأقصى حد المرونة مع الشمال، وأن تظهر قيادات الحركة قدراً كبيراً من التصالح والتودد إلى الشمال وأهل الشمال من أجل استكمال استحقاق اتفاق السلام الذي قضى بفصل الجنوب وهو الغاية التي عملت لها الحركة منذ أكثر من ربع قرن، فلماذا تغامر الحركة بوضع هذا الهدف على المحك وفي مهب الريح من خلال هذا التصعيد غير المبرر وغير المنطقي ضد شريكها الأساسي ورفيقها الأوحد في طريق السلام الذي مشوه خطى مكتوبة، ألا تخشى الحركة أن تتداعى الأحداث في اتجاه الانتكاس والعودة إلى المربع الأول فيصبح إنشاء الدولة الجنوبية حلماً بعيد المنال، هل من مصلحة الحركة الشعبية وحكومتها أن تتدهور الحالة الأمنية والعلاقات مع الشمال وهي بين يدي إعلان دولتها الجديدة؟ الإجابة قطعاً هي لا وفقاً للحساب المنطقي، إذن لمصلحة من هذا الذي تثيره وتديره الحركة للدفع بالأحداث نحو التصعيد؟إن حال الحركة الشعبية هذا مثل حال لاعب كوتشينة ورقه (فاتح) فيقوم بخلط الأوراق و(دكها) دون سبب!!