الصديق الغالي جداً.. منذر واليوم نرسل سلاماً.. وندمع وداعاً.. فاليوم هو اليوم الأخير.. أو هي الحلقة قبل الأخيرة من سلسلة «ونستنا» معك.. وفيها أقول.. كما قلت سابقاً.. إني أقل اليساريين شأناً.. وأفقرهم انضباطاً.. وأعوزهم تسليحاً بقيم الخير والحق والجمال.. هم يا أخي.. وأنا هنا استوحي رقابة ضميري والخالق.. هم أنبل الناس نفوساً.. وأشجعهم وأقواهم مراساً.. أنا وهم لم يشدنا شيء للاندفاع في تلك الحياض غير نذر النفس وتقديم حتى الأرواح دفاعاً عن الفقراء والبسطاء والعمال وبؤس المزارعين.. لا شيء ابتغيناه من ركضنا في حقول اليسار غير نشد العدالة الاجتماعية وفرط مظلة فوق رؤوس الفقراء والكادحين ليعيشوا حياة إنسانية وكريمة.. لا نبتغي من ذاك الكفاح والرهق.. منفعة دنيوية زائلة.. وعلى عكس بعض «أخوانك» في الحركة الإسلامية الذين ملأوا الفضاء بأنها لله ولا للسلطة ولا للجاه.. وزرعوا المحافل والميادين والطرقات بأناشيد «لا لدنيا قد عملنا».. ويشهد الله ونشهد نحن ويشهد كل ذي عينين أن كماً مقدراً منهم كان اندفاعهم فقط للسلطة وللجاه.. وأن قطاعاً منهم كان يعمل في مثابرة.. للدنيا.. أما نحن صديقي فقد عملنا ونعمل وسنعمل للدنيا.. ولكن أي دنيا تلك..؟.. هي دنيانا التي نعيش ونحيا فيها.. نعمل على قهر الظلم والاستبداد وإشاعة العدل والرفق والترفق بالمساكين وانتزاع حقوق العاملين الفقراء المنهكين عنوة واقتداراً.. أعلم يا صديقي.. أننا نضع في «بوابة خيمتنا» لافتة مضيئة.. بارزة الحروف كان قد أنشدها مرة اليساري صلاح أحمد إبراهيم.. وهي تقول.. آخر العمر طويل أم قصير كفن من طرف السوق وشبر في المقابر.. تجاورها أيضاً.. لوحة.. كان قد خطها المبدع الراحل «وبرضو يساري» علي عبد القيوم.. تنطق كلماتها بل تصرخ حروفها.. أي المشانق لم تزلزل بالثبات وقارها.. الفقراء نحن.. الطيبون نحن.. الكادحون نحن.. كل هذا عن رفاقي.. أرأيت كيف هم يفوقوني.. بسالة.. وجسارة.. وإنسانية.. و «عشان تصدق» إليك هذه القصة الحقيقية.. كان ذلك قبل عشرين سنة وتزيد.. وكنت في «ونسة» هادئة مع أحد الأصدقاء من اليساريين.. والحق لله فقد كان الرجل صارماً في توجهه عنيداً في مواقفه.. جاداً حد التهور في معتقداته اليسارية.. في قمة «الونسة» قلت له في طيش وإهمال بل في بؤس وبلادة «تصدق متمني ألقى قروش اشتري جلابية «سكروته» و «مركوب نمر».. هنا انتفض الرجل كمن لدغته حية.. ثم وجه لي سيلاً من الكلام وكأنه مدفع سريع الطلقات.. قال لي والغضب يتطاير من عينيه «إنت ما نافع.. فيك بقع برجوازية قذرة.. ودي أحلام تافهة وقاصرة وكسيحة.. دي أماني مترفة وتفكير انصرافي وأوهام عابثة وفجة.. وانت محتاج تقعد جلسة نقد ذاتي مع نفسك.. لتبرأ من أحلام الثراء والترف الذي تعوم فيه الطبقات الطفيلية والتي ما برحت تعيش من «مص» دم الشعب..». صدقني يا منذر.. لقد ظللت طول ليل تلك الليلة.. أتقلب على جمر تهبه الريح.. وبت مثل البديع الراحل خليل إسماعيل «طول الليل مساهر ما زار عيني نوم» لم أترك بوصة واحدة من «روحي» إلا وسددت لها لكمة من يد..وطعنة من حرف.. و «جرحة» من سيف.. المهم لم أترك لنفسي شيء من «نفس» وعندما أشرق الصباح.. كنت قد تعافيت.. منذ ذاك التاريخ وحتى الآن.. أنا الآن يا صديقي.. أحدث نفسي عندما يقترب العيد.. «بجلابية» من أرخص قماش وفقط «مركوب أصلة». بكرة.. نحدثك عن الناس.. الجد.. جد.. مع السلامة..