وضع الرئيس البشير حجر الأساس في بناء الجمهورية الثانية عبر خطابه إلي الأمة السودانية من البرلمان، وقد بدد الرئيس في خطابه كل المخاوف التي انتابت المواطنين بشأن ما ستؤول إليه الأوضاع بعد التاسع من يوليو في السودان الشمالي. فقد بث صنّاع الشائعات وأصحاب الخيال الواسع لدى الناس أن الحكومة تنتظر بفارغ الصبر الإعلان الرسمي لانفصال الجنوب لكي تضرب الموسيقي العسكرية وتعود الحكومة سيرتها الأولى، وأنها سوف تحكم بالحديد والنار حتى أن البعض أطلق تأكيدات بظهور بعض الوجوه والرموز والشخصيات (الإنقاذية) القديمة مرة أخرى إلى واجهة السلطة، والبعض سماهم بالاسم. ولكن ما جاء في خطاب الرئيس كان شيئاً آخر، و أول ما يلفت الانتباه في الخطاب أنه جاء موجزاً ومحدداً وخالياً من الإنشاء وواضح المعالم، ومباشراً في عباراته، ولعل أول ما يشيع الاطمئنان إلى أن الجمهورية الثانية ستكون نسخة مغايرة تماماً لنسخة الجمهورية الأولى، أن الرئيس خاطب الشعب من منصة البرلمان، وفي هذا رمزية واضحة وإشارة قوية إلى أن الديمقراطية ستكون بمثابة العمود الفقري للجمهورية الثانية، وأن البرلمان سيكون هو الحاكم الفعلي فيها. وفي اعتقادي الشخصي أن أهم ما جاء في خطاب الرئيس هو تلك المباديء التي أعلنها وأكد أنها ستكون مرتكزات للحكم في الجمهورية الثانية، وهي الالتزام بسيادة حكم القانون وبسط العدل وضمان حقوق المواطنة والشفافية في اتخاذ القرار والنزاهة في صرف المال العام ومبدأ المحاسبة واعتماد معايير الكفاءة وبث الروح الوطنية، ولا نملك إزاء هذه الوعود الرئاسية إلا أن نتأسى برسول الله ونردد ما قاله حين انصرف ذلك الأعرابي الذي سأله عن الفرائض فأقسم أنه سيؤديها على وجهها ولا يزيد عليها قط، حيث قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفلح إن صدق)، ونحن بدورنا نقول أفلح الرئيس البشير إن صدق، وصدقه تطبيق هذه المباديء ونحمد الله أن بشريات هذا الصدق قد تحققت ولما لم يجف حبر الخطاب ولم ينقطع رجع صداه، وذلك حينما تم إطلاق سراح كافة الموقوفين لدى جهاز الأمن والمخابرات إنفاذاً لتوجيهات الرئيس والتي وردت في خطابه، فأصبحت معتقلات الجهاز خالية تماماً رغم التحديات الأمنية الكبرى التي تحيط بالبلاد من تمرد والتهديد من بعض القوى السياسية بإسقاط النظام، وهي حالة يجب أن توصف بالتاريخية لأنها لا مثيل لها في العالم لا في شرقه ولا في غربه. فالالتزام بسيادة حكم القانون وبسط العدل هو قيمة إنسانية ودينية وأخلاقية مطلوبة وضرورية، فالعدل هو أساس الحكم والقانون إذا ما تم احترامه، واحترامه يكمن في تطبيقه على الكل على قدم المساواة دون تمييز لأي سبب من الأسباب ولنا في دولة المدينة وفي عهد الخلفاء الراشدين الأسوة الحسنة والمثال الناصع، وقد كان العدل بين الناس الذي أقامه الخلفاء الراشدون سبباً في دخول الكثيرين من غير المسلمين في الإسلام. وحقوق المواطنة إذا ما تم احترامها من قبل الدولة وتأديتها على وجهها الأكمل، فإن ذلك سيجعل المواطن مديناً وممتناً للحكم وللدولة ويزيد من إحساسه بالحب للوطن واستعداده لبذل الغالي والنفيس من أجله، ويشعر بالفخر والاعتزاز بالانتماء إليه ويدفعه هذا الشعور للقيام بواجباته نحو الوطن دون تقاعس أو تكاسل، فالوطنية التي ينشدها الجميع لا تأتي هكذا عفو الخاطر، فلابد من محفزات ومثيرات لها ولابد من بنائها بإعطاء المواطن حقه كاملاً دون من ولا أذى. أما الشفافية في اتخاذ القرار فتعني أن المواطن سيشارك في صنع القرار طالما كانت هناك شفافية، والشفافية تعني مشورة الناس والنزول عند الرأي الغالب وألا تكون القرارات فجائية وغامضة، بل يهيأ الناس لها وتكون موافقة ومتوافقة مع اتجاهات الرأي العام وغير مصادمة له. والنزاهة في صرف المال العام هي أشد ما تحتاج إليه الجمهورية الثانية، وهل أضر شيء بالبلاد أكثر من إهدار تبديد المال العام والاعتداء عليه بالنهب والسلب والإسراف والتبذير، إن الاعتداء على المال العام كان هو (السوسة) التي نخرت في جسم الاقتصاد، ودابة الأرض التي أكلت منسأته حتى خرّ صريعاً. والمطلوب في الجمهورية الثانية هو وضع الآليات المناسبة والناجعة للقضاء على هذه الآفة، ولعل مبدأ المحاسبة المستند إلى (من أين لك هذا) هو الذي يجب أن يسود على الكبير والصغير، الوزير والخفير.. فإنه قد أهلك الذين من قبلنا أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وهذه شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، أن التمييز في المحاسبة مدعاة إلى الهلاك والدمار وذهاب الريح والهوان على الأعداء. وتطبيق معايير الكفاءة في الاختيار للمناصب مطلوب بشدة، لأنه سيأتي بأهل القدرة والكفاءة والتأهيل إلى المناصب والوظائف، وبالتالي ينتج عن ذلك أداء ممتاز وتخطيط جيد وتطبيق دقيق ومحكم للبرامج والخطط في المجالات المختلفة، وثمرة ذلك كله النهضة والتنمية والتقدم والقوة.. وهل هناك شعب أو أمة تستغني عن هذه القيم.