ü زودني اتحاد الصحافيين السودانيين- مشكوراً- بنص البيان الختامي لاجتماع الأمانة العامة «للصحفيين العرب»، الذي انعقد بمقره العام في القاهرة في يومي 14 و 15 سبتمبر الحالي، وترأسه رئيسه العنيد الأستاذ إبراهيم نافع بحضور جل نواب الرئيس وأمينه العام الأستاذ مكرم محمد أحمد والأمناء العامين المساعدين الذين يرأسون اتحادات ونقابات دولهم- لدورات متعاقبة- وبينهم الدكتور محيي الدين تيتاوي عن السودان. ü أول ما لفت نظري في البيان الصادر عن اتحاد «الصحفيين»- يكتبونها هكذا لا كما يقتصى صحيح اللغة «الصحافيين»- أول ما لفت نظري هو وقوف أعضاء الأمانة «دقيقة حدادٍ على شهداء الصحافة في بعض الأقطار العربية» وحدهم دون غيرهم من عشرات الآلاف من الشهداء العرب الذين دفعوا أرواحهم العزيزة في سبيل الحرية، وفي مقدمتها حرية الصحافة والتعبير. فجاء تمييز «شهداء الصحافة» على غيرهم من الشهداء الكرام بمثابة انحياز غير مفهوم وغير موفق، إن لم يكن مقصوداً، وأظنه غير مقصود، ولكن «الطبع يغلب التطبع» كما يقال. ü الاجتماع يأتي في أجواء «الربيع العربي»، ربيع الثورات والانتفاضات التي أطاحت بأنظمة قمع عربية عاتية، وتهدد باقتلاع أنظمة أخرى منها ما دخل اتون المعركة بالفعل ومنها من ينتظر- وما بدّلوا تبديلا- أجواء فرضت نفسها على الاجتماع وجعلت القائمين على أمره، وجلهم ينتمون- بالأصالة- للنظم العربية المخلوعة أو التي تقاتل من أجل البقاء أو تلك التي تقف في صف الانتظار، جعلتهم يفكرون ويتدبرون في صيغة مقبولة أو لنقل «متوازنة»- بميزان المصالح الموروثة والمكتسبة من العهود السابقة من جهة و «مسايرة» المستجدات التي طرحت نفسها بقوة محمولة على رياح الربيع العربي. والأمثلة والشواهد التي تعزز مثل هذه الرؤية «الازدواجية» و«الموازنات» المتعمدة في بيان الاتحاد عديدة، يمكن أن نلتقط بعضها ونقف على نصوصها الشديدة الإيحاء بمثل هذه المعاني.. معاني «المسايرة» و«تحسس البطحة» التي على الرؤوس كما يقول الشوام أو «الريشة» في لغة السودانيين.. ومن ذلك: ü الأستاذ إبراهيم نافع رئيس الاتحاد منذ عهد «السادات- مبارك» ورئيس تحرير أكبر المؤسسات الصحفية المصرية الرسمية، لم يجد حرجاً في «خطابه التوجيهي» أن يتحدث عن «قضايا المهنة وحرية الصحافة والتعبير وحقيقة أوضاع الحريات العامة في الأقطار العربية (في ضوء) ما تشهده الأقطار العربية من تغييرات جذرية لأنظمة الحكم الذي انعكس على الوضع الاعلامي، الذي وصفه بأنه «شهد انفلاتاً غير مسبوق»، وطالب بإدخال إصلاحات قانونية تضمن ممارسة المهنة الصحفية بكل حرية وبما ينسجم مع مواثيق وأخلاقيات المهنة. ü (إيجابياً) تحدث البيان، أيضاً عن أن الفترة التي تمر بها المنطقة العربية «فترة شديدة الأهمية في تاريخ عالمنا العربي، وسوف يكون لها تأثيراتها القوية والبعيدة المدى على صحافتنا العربية.. أملاً في تغيير ديمقراطي ينظم تداول السلطة في عالمنا العربي من خلال انتخابات نزيهة ودساتير عصرية تحترم الحريات العامة والخاصة وتعيد للإنسان العربي كرامته وحقوقه، كما تعيد للأمة العربية حقها المشروع في أن تكون مصدر السلطات. ü لكن البيان في الوقت نفسه يحذر من أن هذه الأحداث التي تحمل آمالاً عريضة في صحافة أكثر حرية وتنوعاً «تكسر قيد الرقابة وتعزز حرية الرأي والكلمة وتحمي حق النقد والاختلاف»، يحذر من طرف خفي من أنها «تحمل مخاطر عديدة تدعو إلى قسمة الصحافيين العرب إلى معارضين وموالين، وتطالب بتطهير جداول النقابات في بعض البلدان العربية- وربما الإشارة هنا إلى مصر وتونس- وتستخدم أساليب متعددة في قهر (الرأي الآخر) تدخل في (باب الإكراه) من شأنها أن تلحق الأذى بحرية الرأي والتعبير. فالبيان هنا يحذر ويتحسب للمستقبل، وما يمكن أن يحمله من مخاطر (الانقسام) بين صحافيين موالين وآخرين معارضين وكأنما في ذلك جديد، وهو- كما يعلم الجميع وأولهم الصحافيون- أنه كان هناك دائماً صحافيون موالون- حتى للسلطات القاهرة والمستبدة ومن بينها تلك التي أطاحت بها الشعوب- والتي كانت «حرية الصحافة والرأي الآخر» مصنفة عدواً أول و أكبر ومن (باب الاكراه) أيضاً، فما هو وجه الغرابة في أن يكون الآن وفي المستقبل صحافيون موالون للديمقراطية وحرية التعبير وآخرون ضدها بحكم نشأتهم و «تدريبهم المهني»، وبعضهم يحملون علناً ويشهرون بطاقة انتمائهم للأحزاب الشمولية الحاكمة. ü (إيجابياً) أيضاً حذر بيان الاتحاد- مشكوراً- من استمرار آلة القتل التي تحصد أرواح آلاف الشهداء لمجرد أنهم يطالبون (بحق التظاهر السلمي وحرية التعبير)، الأمر الذي يقضي على فرص الحوار وينشر خطر الحرب الأهلية- كما هو متوقع في اليمن أو سوريا- ويخلق ظروفاً مواتية لتدخلات أجنبية، لكن لم يقل البيان شيئاًَ عن الدور الذي يمكن أن يلعبه الاتحاد، كمنظمة مجتمع مدني ومهني كبيرة، لوقف هذا الخطر، كما لو يوجه نداءه مباشرة لقادة تلك الدول الوالغين في دماء شعوبهم لوقف القتل والاستهداف اليومي لأرواح الأبرياء، وكان لمثل هذا النداء أن يمثل مساهمة، ولو من قبيل الضغط المعنوي، على ضمائر أولئك القادة السفاحين. فقد جاء «النداء» موجهاً ل«جميع الأنظمة العربية بممارسة مسؤولياتها لتوقف أعمال القتل والعنف التي تجري في (بعض) البلدان العربية، والانخراط الجاد في عملية إصلاح سياسي واسع تعيد علاقات الحكم في عالمنا العربي» فالتعميم هنا لا يغني عن التخصيص. ü دعا البيان كذلك الحكومات العربية لاحترام حقوق الإنسان والالتزام بالمواثيق الدولية، ومنظمات المجتمع المدني وفي مقدمتها اتحادات نقابات وجمعيات الصحافيين إلى مراقبة ذلك الالتزام، كما دعا هذه الحكومات إلى إعادة النظر في القوانين التي تحكم الصحافة وكل صور الإعلام ورفع الرقابة وتهيئة مناخ ملائم لممارسة حرية الرأي والتعبير، كما أدان عمليات الاعتداء على الصحافيين خلال قيامهم بمهامهم التي وصلت حد القتل والاختطاف وإهانتهم وإتلاف معداتهم ومصادرة المواد الإعلامية. وكان الأجدر هنا بالاتحاد أيضاً أن «يكشف» بشفافية تامة أين يحدث هذا ويقدم، كما تفعل منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان المحترمة، بياناً مفصلاً وموثقاً بهذه الانتهاكات حتى يكون لها أثر فاعل وتأثير رادع لتلك الحكومات التي تقترف هذه التجاوزات، فالتعميم هنا لا يغني أيضاً عن التفصيل ويدخل في باب التجمل والمسايرة ورفع العتب. ü لكن أطرف ما في بيان الاتحاد، هو تلك الدعوة أو التوصية بعقد «مؤتمر للصحافيين العرب الشباب»، فيما يبدو أنه محاولة للحاق بالركب، وتم تبرير الدعوة- بحسب البيان ب«التعرف على مطالبهم وتمكينهم من تحقيق ذاتهم بما يسد الفجوة بين شباب المهنة وشيوخها»، وهو في نظري تقدير وتبرير غريب لمواقف الصحافيين ورؤاهم يعتمد على عمر الصحافي، وليس على فكره وقدراته المهنية وحرية ضميره، وتلك معايير لا علاقة لها بعمر الصحافي وسنوات خبرته. فليت الدعوة أو التوصية خصصت لمهام «التدريب ورفع القدرات» وليس ل«تواصل الأجيال» المفترض.