ü لم أجد ما هو أنسب عنواناً للإضاءة على مخرجات الندوة التي انعقدت في «القاعة الخضراء» بالبرلمان من العنوان أعلاه، على وزن قول أهلنا المُحبين لآل البيت ب«ظلم الحسن والحسين» عندما يجدون أنفسهم أو غيرهم في حالة ظلم بائن وشائن لا يحتاج إلى شرح أو تأكيد عبر الأدلة والبراهين. عنوان الندوة في حد ذاته كان البرهان الأكبر على حالة الخشية والتوجس من «النمور» الرابضة في أركان المبنى، حيث أختير لها «أبعاد حرية التعبير في المجتمعات النامية» بينما دار الحديث والنقاش حصراً حول «أوضاع الصحافة السودانية» والتضييق والمظالم التي تعانيها، فكأنما من اختاروا عنوان الندوة رأوا أن لا سبيل غير طعن «ضل الفيل» أولاً تمهيداً للوصول إلى الفيل ذاته، وهم في كل الأحوال يشكرون على فطنتهم و «حرفنتهم» التي هدتهم إلى ذلك التدبير. ü محاور شتى تناولها المتحدثون في الندوة، أهمها أوضاع الصحافة في بلادنا من حيث حرية التعبير وحرية الوصول إلى المعلومات والبنية التحتية للمؤسسات الصحفية والإعلامية وقدرتها على مواجهة مطلوبات تمويل العمل وتوفير بيئة صالحة للإنتاج الصحفي المتميز، ومن حيث المظالم التي يعاني منها الصحافيون المتمثلة في ضآلة المردود المادي لعملهم والبطالة التي يعانيها بعضهم، بطالة صريحة أو مقنعة. ü وإذا ما بدأنا بالمحور الأول والأهم وهو حرية التعبير وحرية الوصول إلى المعلومات في ظل القانون الحالي أو القانون «المرتقب»- بالتعديل أو بصياغة قانون جديد- فإننا نجد أن ظلم الصحافة شائن وبائن ولا يحتاج لدليل، بالرغم من حديث البعض عن «هامش الحرية»، وليس «الحرية» ذاتها التي من المفترض أن يؤمنها الدستور وتكفلها وتُؤطرها القوانين التي تحكم البلاد، وليس قانوناًخاصاً بالصحافة «بالاسم»، فوجود قانون خاص بالصحافة في الأعراف الديمقراطية لا يخلو من شبهة «تمييز سلبي» و ومدخلٍ لمحاصرة الصحافة والصحافيين في «زريبة قانونية» خاصة بهم من غير كل خلق الله، فالأصل أن تحاكم الصحافة ويحاكم الصحافي أمام قاضيهم الطبيعي وفق القوانين السائدة والنظم المرعية في «دولة ديمقراطية» بحسب العبارة الواردة في الدستور الانتقالي لعام 2005. لكننا في الواقع المعاش نجد أن أجهزة الدولة- والأمنية منها خاصة- تتصرف تجاه الصحافة بالإغلاق الإداري الفوري «بالضبة والمفتاح» وتجاه الصحافيين بالاعتقال إلى إشعار آخر، وقد يكون هذا الإشعار إطلاق سراح بعد تحقيق- وعينك ما تشوف إلا النور- أو بعد إحالة لمحكمة في وقت لاحق. أما حرية الوصول إلى المعلومات فهي في حكم العدم، فليس من حق الصحافة أو الصحافي الاطلاع على أية معلومة أو ملف أو قضية حتي لو لم تكن «مصنفة سرية» لأنه لا يوجد قانون يحمي «حرية الوصول إلى المعلومات» أو حتى قانون يصنف المعلومات بين ما هو سري وما هو متاح وفق المعايير الدولية لحرية النشر والتعبير. ما جعل صحافتنا تقتات وتعيش على ما يتفضل به المسؤولون والسياسيون من تصريحات أو معلومات حول «الإنجاز» يريدون الترويج لها، ويندر أن تنفرد صحيفة أو يتفرد صحافي بخبر، لأن جميع الصحف والصحافيين يعملون وفق ذلك «الهامش» المتاح أو الممنوح. ü لفت نظري في ما هو منشور من وقائع تلك الندوة الحماس الظاهر والحمية الشديدة في مطالبة رئيس الاتحاد العام للصحافيين السودانيين الدكتور محيي الدين تيتاوي لرئيس المجلس الوطني أحمد إبراهيم الطاهر بنشر قائمة «الصحافيين الجواسيس» على حد وصف رئيس المجلس خلال جلسة للهيئة التشريعية الشهر الماضي ناقشت قانون الطواريء في النيل الأزرق، حين قال إنه يمتلك لائحة بأسماء الصحافيين الذين يعملون لصالح جهات أجنبية، وتحديداً الحركة الشعبية في جنوب السودان، لكنه لم يكشف أي اسم من أسماء هؤلاء «الجواسيس» حتى الآن، وقال تيتاوي إن على رئيس البرلمان الكشف عن اسماء الصحافيين الذين اعتبرهم جواسيس فوراً ودون إبطاء، بعد هذا الاتهام الخطير إن كان لديه اسماء «لأن مثل هذه الاتهامات خطيرة جداًولا يمكن السكوت عليها، كما أن مثل هذا الاتهام يمكن أن يشملنا نحن أيضاً» وربما كان سر حماسة تيتاوي يكمن في هذه الجملة الأخيرة «يمكن أن يشملنا نحن أيضاً» ولكن نقول للسيد النقيب «حاشاك وتبرا» من مثل هكذا اتهام، فقد قلت في ذات المقام إنكم «كصحفيين إسلاميين تم تصنيفنا في العام 1989 خلال الانتخابات- انتخابات النقابة- وتم استبعاد 200 اسم من لائحة الأسماء التي قدمناها بدعوى التصنيف» وعلى كل حال تشكر لرفضكم «كاتحاد صحافيين» لمبدأ التصنيف ورفض هذا الاتجاه، ونتمنى أن تعكس نتائج الانتخابات القادمة وحدة الصحافيين على أسس مهنية و «ليست سياسية» وأن تأتي قيادة الاتحاد من عناصر مستقلة و مهنية وليست مصنفة سياسياً، كما هو الحال في كل اتحادات ونقابات «المنشأة». ü كما لفتت نظري واستوقفتني إفادات صديقنا الأستاذ فتحي شيلا في تلك الندوة التي انعقدت برعاية لجنته الإعلامية البرلمانية، فقد اطلق الأستاذ شيلا «عبارات مفرحة» وبحماس ظاهر أيضاً ضد «الرقابة» من كل نوع- قبلية أو بعدية- حيث قال إن الرقابة لا تستطيع حجب المعلومات في الوقت الحالي- يقصد المعلومات المتاحة طبعاً لأن حرية الوصول إلى المعلومات غائبة أصلاً- وبلغ به الحماس أن يصف الرقابة بأنها «حاجة مُتخلفة»، وهذا موقف يحسب له كعضو في الحزب الحاكم، ووضع شيلا خيارين أمام الصحافيين بشأن قانون الصحافة: إما تعديل القانون الحالي لأن الحرية في الواقع المعاش أقل من الحرية المنصوص عليها في الدستور أو البحث عن قانون جديد، وتجاهل- لا أدري عمداً أو سهواً- الخيار الثالث وهي أن تتحاكم الصحافة والصحافيون إلى القوانين السارية في البلاد وإلى القاضي الطبيعي في حال التجاوزات المتصلة «بالنشر الضار» في حق الآخرين، مؤسسات أو مسؤولين أو أفراد من عامة خلق الله. ü أما مظالم الصحافيين، خصوصاً ناشئتهم، والبطالة الحقيقية أو المقنعة عبر «التعاون» الذي لا يقيم الأود، فقد رده السيد النقيب في جزء من إفادته إلى تهاون مجلس الصحافة في شأن لائحة الأجور وإلى الصحافيين ذاتهم «الذين يرضون بالدنيَّة والقليل» عوضاً عن البطالة الصريحة والبحث عن وسائل أخرى لكسب العيش المريح. والأمر عندي ليس في مكنة مجلس الصحافة ولا حتى في إدارات الصحف، وإنما هو أبعد من ذلك يتصل مباشرة بالبنى التحتية وبرأس المال العامل في الصحف وبالإعلان الموجه(سياسياً)، فأوضاع الصحف بائسة لأنها لا تملك من البنى التحتية ما يمكنها من مكافأة العاملين فيها على الوجه المطلوب فأغلبها لاتملك آليات الطباعة التي تلتهم جل عائدها من الإعلان- إذا كانت من ذوات الحظوة التي لها في كيكة الإعلان نصيب- كما أنه لا توجد شركات ذات قدرات كبيرة تقف وراء هذه الصحيفة أو تلك كما هو الحال في الدول الغربية، والدولة من جانبها لا توفر أي قدر من الدعم والعون للصحافة «المستقلة» كما يحدث في بعض «الدول النامية» التي أشار إليها عنوان الندوة كما سبقت الإشارة. كل ذلك يجعل الأمل في تحسين أوضاع الصحافيين ضرباً من «أحلام ظلوط»، خصوصاً في ضوء الأزمة الاقتصادية المتفاقمة يوماً بعد آخر منذ انفصال الجنوب.