كل من تابع حديث بروفسير إبراهيم أحمد عمر أمين الفكر والثقافة بالمؤتمر الوطني ليلة السبت لبرنامج «في الواجهة»، الذي يقدمه الأستاذ أحمد البلال الطيب، لابد أنه أُصيب بمزيج من الحيرة والدهشة مما ذهب إليه الدكتور إبراهيم في ذلك الحوار المتشعب، الذي غيَّر خلاله مواقفه الأخيرة والمعلنة، والتي تناقلتها الصحف ومجالس المدينة على مدى أسابيع. تلك المواقف التي عبّر فيها إبراهيم عن ضجره من حالة حزبه «المؤتمر الوطني» عبر جملة من الأسئلة الاستنكارية الناقدة من مثل: هل نحن حزب رسالي؟ كيف يتخذ القرار في مؤسسات الحزب؟ هل نحن حزب شورى أم اجتماعاتنا مجرد مظهر للشورى وأن القرار يتخذ في موقع آخر.. إلى آخر تلك التساؤلات التي يمكن للقارئ الاطلاع عليها في الصحف التي رصدت مداولات مؤتمر القطاع السياسي التنشيطي الذي عقده الحزب أخيراً، والتي كانت موضوعاً للتعليقات وأعمدة الرأي في الصحف والمواقع الاسفيرية حينها. لم يكتفِ د. إبراهيم أحمد عمر بالتراجع عن تلك المواقف والتساؤلات المحقة، الصادرة عن ضمير يقلقه حال الحزب الحاكم الذي يقود قطاع الفكر والثقافة فيه، بل ذهب إلى تدبيج المديح والتعبير عن الرضا، بل والمفاخرة بحال حزبه من خلال مقارنة و مقاربة مختلة، صورت «المؤتمر الوطني» في أبهى وأزهى صورة وأساءت إساءة بالغة للأحزاب الأخرى، فانطبق على أقوال عمر المثل العربي الشهير «رمتني بدائها وانسلت» الذي يضرب لمن يعير صاحبه بعيب هو فيه، ولم يتحسب الدكتور للمثل العربي الآخر في مجال «الرَمي» القائل: لا ترم سهماً يعسر عليك ردّه، ولا للمثل الثالث الذي يقول: قبل الرماء تُملأ الكنائن، بمعنى يجب التجهيز للأمر قبل الإقبال عليه، والكنائن هي جُعب السهام. ما همنا من ذلك الحوار الطويل، على شاشة التلفزيون الرسمي السوداني، الذي جرى بين البلال وعمر، والذي خصص معظمه ل«غلوطيّة» المشاركة أو عدم المشاركة من قبل الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) في الوزارة المرتقبة، هو إفادات البروفسير حول حالة حزبه وأحوال الأحزاب الأخرى، فرداً على سؤال للبلال عن مدى التزام حزب المؤتمر الوطني الحاكم باستحقاق «التحول الديمقراطي» الذي كثر الحديث حوله دونما أن يراه الناس يتحقق على الأرض، أجاب إبراهيم أحمد عمر بما معناه أن مشكلة التحول الديمقراطي والديمقراطية في السودان تكمن في أن الديمقراطية تحتاج أحزاباً، وهذه الأحزاب غير موجودة في واقع الحياة السياسية السودانية، إذا ما استثنينا حزباً واحداً هو المؤتمر الوطني.. كل «الأحزاب» السياسية السودانية لا ينطبق عليها وصف الحزب، هي قيادات فوقية بلا جماهير ولا تنظيم ولا مؤتمرات ولا مجالس للشورى ولا كوادر، هي مجرد قيادات تسمى نفسها أحزاباً. الحزب الوحيد الذي تنطبق عليه مواصفات الحزب بالمعنى الحقيقي للكلمة هو حزب المؤتمر الوطني، «فحزبنا حزب منظم ويعج بآلاف الكوادر المدربة ويتمتع بالشورى ويعتمد النقد الذاتي والحوار، وتشهد قطاعاته، كقطاع الطلاب والمرأة، حوارات متصلة ونقداً بناءً يوجهه منتسبو تلك القطاعات للقيادة دون خوف أو وجل»، أي أنه «حزب ديمقراطي» كامل الدسم، وهذا ما تفتقده الهياكل السياسية الأخرى التي تسمي نفسها أحزاباً وهي ليست كذلك بحسب قول البروفسير إبراهيم أحمد عمر. صمت البلال طويلاً وهو يتابع هذه الإفادة المسهبة والمدهشة للدكتور الذي بدأ في تلك اللحظة منتشياً و مستغرقاً في حالة من «العزة بالإثم»- كما يقول المثل- لكن البلال كان ينتظره بسؤال أدهى وأمر: فقال له أنا عملت في صحف مايو وغطيت الأنشطة السياسية للاتحاد الاشتراكي، ولم أكن أتوقع أبداً أن ذلك الحزب الذي كان يعبئ الساحة ويسيطر على مقاليد الأمور في البلاد يمكن أن يتبخر بين يوم وليلة وكأنه لم يكن، وشهدنا نفس الشيء يتكرر مع حزب التجمع الدستوري في تونس والحزب الوطني الديمقراطي في مصر فور سقوط كل من زين العابدين بن علي وحسني مبارك، ألا تعتقد أن حزب المؤتمر الوطني يشبه تلك الأحزاب؟ فكان رد الدكتور مرتبكاً ومُحيراً في آن معاً، فهو قد نفى عن حزبه- ذات الحزب الذي تشكل وتأسس بعد انقلاب «الإنقاذ» بتحالف بين الجبهة القومية الإسلامية والملتحقين بالنظام الجديد وأصحاب المصالح- نفى عنه أي تشابه أو تماثل مع تلك الأحزاب السلطوية الحاكمة التي تبخرت وانهارت فور انهيار النظام الذي أوجدها ورعاها كواجهة سياسية له، وبما أن الدكتور إبراهيم لا يستطيع أن ينفي ذلك الزواج الكاثوليكي بين حزبه والسلطة القائمة، فقد لجأ للقول بأن تلك الأحزاب كانت أحزاباً علمانية، بينما حزبهم هنا يحمل «رسالة السماء» ورسالة السماء باقية إلى أبد الآبدين. ونسى في لحظة «المدافعة» تلك تساؤله الاستنكاري بالأمس لكوادر الحزب وقياداته المجتمعة في مؤتمر القطاع السياسي: هل نحن حزب رسالي حقاً وهل الشورى لدينا مظهر أو جوهر، تساؤلات لم يجد لها إجابة حينها، واعتبرها البعض مقدمة إصلاح يرجى في أحوال الحزب، وإذا بصاحب التساؤلات يرميها خلفه في تلك الجلسة التلفزيونية ويوجه سهامه القليلة نحو الآخرين، دون أن يعبئ كنانته بما تتطلبه المعركة من مؤونة. سؤال أخير، كنت أتوقع أن يوجهه البلال للبروفسير إبراهيم عمر، وهو إذا كانت تلك «الأحزاب» التي هي ليست بأحزاب في الواقع، ولا تعدو أن تكون قيادات معلقة في الهواء بلا جماهير ولا تنظيم ولا كوادر، فلماذا كل هذا الركض الذي يبذله حزبكم من أجل إشراكها في «الحكومة العريضة» التي اقترحتموها، والتي كلفت أنت شخصياً بقيادة التفاوض من أجلها مع الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) والذي بسببه تأخر إعلان الحكومة الجديدة؟! ولكن الأستاذ البلال لم يسأله ذلك السؤال، للأسف!! نعم رمى البروفسير الأحزاب السودانية من دون فرز «بداء حزبه» الذي لم يوجد ولم يتأسس إلا بعد قيام سلطة «الراعي الرسمي»، بينما هذه الأحزاب على ضعفها وهوانها على الناس كانت قائمة واستمرت موجودة منذ ما قبل الاستقلال وبعده، برغم كل ما فعله بها الحزب الحاكم من حل وحصار وتضييق وملاحقة ومصادرة، فنسى البروفسير كل ذلك وألقى باللائمة في غياب الديمقراطية على هذه الأحزاب عجبي.. ما لكم كيف تحكمون!