المتابع للمؤتمرات التنشيطية التي تعقدها قطاعات المؤتمر الوطني هذه الأيام، يلاحظ أن خطابات قياداتها سادها نمط جديد لم تعهده الساحة السياسية من قبل تمثّل في اعتراف هذه القيادات في لقاءات مفتوحة بأخطاء ارتكبت سواء على الصعيد السياسي أم الاقتصادي، الأمر الذي لفت انتباه جملة من المراقبين والمتابعين للمشهد ودعاهم بالمقابل إلى البحث عن ما وراء هذه النبرة، والأسباب التي حدت ببعض القيادات لاختيار هذا التوقيت لممارسة فضيلة النقد الذاتي. البعض عزا المسألة إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية بجانب عدم تمكن الحكومة من الوصول إلى صيغة مرضية حول شكل النظام القادم على خلفية انقطاع الحوارات التي ابتدرتها الحكومة مع (الأمة) و(الاتحادي)، فعليه لربما أرادت هذه القيادات عدم تحمل مسؤولية سياسات خاطئة اتخذها غيرها أو تدخلت جهات عليا في موجهات تتقاطع مع رؤيتها. حديث رئيس القطاع الاقتصادي بالمؤتمر الوطني ولاية الخرطوم غلام الدين عثمان يصب في سياق زعمنا، فالرجل أكد في المؤتمر التنشيطي للقطاع الاقتصادي بولايته غياب الرؤى الواضحة في السياسات الاقتصادية وذهب أبعد من ذلك حينما قال إن «التجارة مشتتة والمالية همها الجبايات ولا توجد مبادرة لذا وضعنا مبادرة خاصة لإنشاء وزارة الاقتصاد». { أما وزير المالية علي محمود فقد كشف في لقاء مختلف عن رصد وزارته لدخول (300) عربة باسم الدبلوماسين في وقت يتم فيه حظر استيراد العربات، قبل أن يتساءل؛ هل دبلوماسيو السودان يصلون إلى هذا العدد؟ { علي محمود أثارت تصريحاته في ذات المناسبة لغطاً كبيراً فيما يتصل بمسألة الدولار وسال مداد كثيف حول تصريحه الذي نبه من خلاله إلى أن بعض المسؤولين يحصلون على الدولار بحجة علاج أسرهم خارج السودان وصرفه في السوق الموازي..!! { وعلى الرغم من عالي سياط النقد المنثورة في ثنايا التصريحات عاليه إلا أن هناك من حاول التقليل من شأنها، فيما قرأها آخرون في سياق موجة الاحتجاجات التي يقودها عدد من شباب الحزب ضد سياسات بعينها ويجدون مساندة من قيادات وسيطة أصبحت تتطلع إلى تغيير شامل ينهي قبضة المجموعات المتسلطة التي تفصّل السياسات على مقاس المصلحة، ولهذا السبب قصدت إخراج الهواء الساخن في جو المؤتمرات العامة حينما عجزت عن المعالجة داخل الأطر التنظيمية..!! { ما لا يمكن إغفاله بالطبع ضمن تسونامي النقد الذاتي هي موجة تساؤلات بروفيسور إبراهيم أحمد عمر التي غمرت أرجاء الوطن الوطن، بعد أن اتصل الجدل حولها خارج مدارات المؤتمرات التنشيطية. { البروف إبراهيم أحمد عمر، المحسوب على جيل الحركة الإسلامية الأول كان قد تساءل من داخل الجلسة الافتتاحية لمؤتمر القطاع السياسي للحزب الحاكم عندما خاطب الحضور بجملة من الأسئلة من شاكلة: هل كان حوارنا مع الأحزاب يقوم على خطة صحيحة؟ وهل كان حوارنا (يقصد المؤتمر الوطني) مع حزبي الأمة القومي والاتحادي الأصل مرتباً وواضحاً أم كان بمثابة حوار الطرشان؟ وما مدى نجاح الحزب في تحقيق رسالته وأهدافه السياسية، ونجاعة أدواته في تحقيق ذلك؟ وهل كان المؤتمر الوطني حزباً رسالياً يقدم النموذج للآخرين؟ وهل اجتماعات الحزب صورية شكلية أم شورية يلزم بها؟ وهل أداة الحزب التي تصنع القرارات تتمثل في المكتب القيادي أم مجلس الشورى، أم المؤتمر العام؟ وأسئلة أخرى كثيرة. هذه الأسئلة وغيرها تدل على وجود اختلافات كبيرة بين قيادات الحزب حول مسألة الحوار مع القوى السياسية تحديداً الحوار مع حزبي الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي الذي يتولى الرجل ملفه بالكامل. { وبحسب ما تناقلته الصحف في الأيام الفائتة، فإنه في أحد اجتماعات الحزب الأخيرة كانت هناك مجموعة ترى عدم مواصلة الحوار مع الحزب الاتحادي لكن الرئيس البشير انحاز إلى إبراهيم أحمد عمر وقرر إتاحة الفرصة لمدة أخرى علها تقنع الحزب العتيق بالمشاركة. { رغم ذلك دعونا نتعرف على الأسباب التي قادت إبراهيم إلى هذا الحديث من خلال التعرف على مواقفه وأدواره السابقة ونحاول وضع تفاسير موضوعية حتى ندرك إن كان ما صدر عنه يتسق وشخصيته، أم يعبر عن قناعات مجموعة أخرى داخل الحزب!! وإلى أين ستقوده هذه التصريحات على ضوء حديثه عن ضرورة إعفائه من دائرة الفكر والثقافة بالحزب الوطني لأنه لم يضف شيئاً؟! { بروفيسور إبراهيم أحمد عمر يعتبر من رعيل الحركة الإسلامية الأول عرف بانحيازه للأصول ومناصرته للشورى ولهذا السبب كان أحد أبرز المتبنين لمذكرة العشرة التي كانت مدخلا لانشقاق الإسلاميين. { ابراهيم كان يرى بوضوح انعدام الشورى نتيجة لتوسع سلطات الدكتور حسن الترابي وعدم تمثيل الرئيس في المكتب القيادي، ومن آرائه المعروفة عدم قناعته بوجود الحركة الإسلامية ولهذا السبب طالب بحلها واستبدالها بحزب المؤتمر الوطني. { بالنسبة للبروفيسور الطيب زين العابدين، والذي استنطقناه حول شخصية الرجل فلم يتردد في وصفه بأنه شجاع وصادق مع نفسه متمسك بقيمه التي نشأ عليها. { الطيب اعتبر التصريحات أتت في سياق الروح النقدية التي تشهدها الساحة هذه الأيام من قبل بعض قيادات الوطني، خاصة أن النائب الأول للرئيس نفسه سبق أن قال ينبغي أن يكون الناس شجعان لأن ما توصلنا إليه لم يكن على ما يرام. { ويمضى الطيب في حديثه معدياً مزايا ومميزات البروف عمر: إبراهيم جريء وما يميزه عن الآخرين أنه ليس حريصاً على السلطة فقبل ذلك شغل منصب الأمين العام للمؤتمر الوطني وقدم استقالته وهو من الممسكين بملف الحوار ودعاة الوفاق والشورى والمؤسسية وقبل دستور 1998 سبق أن صوت في اجتماع مجلس الشورى لصالح الحرية ودافع عن التعددية والتنظيمات السياسية رغم وقوف العسكريين ضدها. { وضوح آراء ومواقف إبراهيم أحمد عمر - من وجهة نظر أحد الحركيين استدرجناه للحديث حول البروف - هي التي دعته إلى التمسك بالبيعة للرئيس الأسبق المرحوم جعفر نميري في 1983، وتكرر ذات الموقف بعد مفاصلة الإسلاميين عندما انحاز إلى الرئيس البشير لأنه - بحسب ما يمضي محدثنا - نظر إلى الموضوع بنفس الزاوية وهي أنهم سبق أن بايعوا البشير وليست هناك بيعتان، معتبراً إن قيادات المؤتمر الوطني رشحته كأمين عام للحزب حتى يصبح رمزية توازي (شياخة) الترابي في المؤتمر الشعبي. { في الجانب الآخر - يواصل محدثنا بالقول - عرف الرجل بالحدة والتمسك بآرائه، مشيراً إلى تمسكه بثورة التعليم العالي والقرارات التي اتخذها في شأن السكن والإعاشة في بداية الإنقاذ رغم قناعة مجموعة كبيرة داخل حزبه وخارجها بخطأ هذه القرارات، ويعتقد المتحدث أن هذه التصريحات تعبر عن اصطدام ملف الحوار الذي يديره إبراهيم بجملة من التغيرات من قبل قيادات داخل حزبه مما أكد له وجود مجموعة تستخدم هذا الحوار كتكتيك للعبور به من هذه المرحلة التي تعيشها البلاد والحزب وربما وصل إلى قناعة بأن حوار المستشارية لم يتوقف بسبب تضارب الاختصاصات بينها والحزب وإنما بسبب هذه السياسة وعندما وصل إلى طريق مسدود أعلن فشله واقترح إعفاءه. { القيادي بالمؤتمر الشعبي أبوبكر عبدالرازق أقر بصدق إبراهيم أحمد عمر أخطأ أم أصاب كما قال، موضحاً أن خطأه في الاجتهاد وحصيلته الضئيلة من الواقع الذي يمثل الفهم العميق لأحكام الدين في إطار التنزيل وليس الموروث الفقهي (حسب تعبيره) لمن سلف من الفقهاء التاريخيين. أبوبكر اعتبر أن حصيلة إبراهيم جانبت بينه واتخاذ القرار السياسي والفقهي الصائب مما قاده إلى طلب مبايعة نميري بعد شريعة 1983 وحل الحزب آنذاك وهو ذات الفهم الذي قاده لموقفه اللاحق في مفاصلة الإسلاميين في ديسمبر 1999م. { أبوبكر أرجع ما صدر من حديث عن البروفيسور مؤخراً إلى تطاول أمد التهميش لشخصه والمعاني التي تمثل أصول الدين وتكاتف الفساد بحسب رأيه، وهو ما قد يكون حرك فيه شيئاً من الوعي ولعله يمثل بوابة استدراك لأخطائه الماضية فيحدث قدراً من المراجعات لاسيما أن حزبه يخلو من الفكر. { أخيراً ربما يكون بروفيسور إبراهيم استدرك أخطاءه وربما أجرى مراجعات لمسيرته وفضل أن ينحاز إلى ذاته التي تعودت اتخاذ قرارها بعد كل حدث يرى فيه ضرورة الفصل بين ما يجري وما يحمله من أفكار واضحة لا تحتمل العيش في منطقة رمادية وقد يكون اتخذ قراره بالفعل بعد تصريحه الذي طالب فيه بإعفائه من قطاع الفكر والثقافة لحزب المؤتمر الوطني بعد أن قال إنه فشل في تحقيق الأهداف أو يكون اتخذ قراره بعد اصطدامه بالمجموعة التي قطعت طريق الحوار مع الأحزاب وجعلت حلمه بتحقيق التعددية الحزبية بعيد المنال. { هذه الإشارات لم تكن مجرد تخمينات وإنما استيحاء من معطيات واقعية تفيد بأن البروفيسور دخل في حالة صمت بعيداً عن أروقة الحزب وضجيج السياسة فشلت معها كل المحاولات التي قمنا بها في (الأهرام اليوم) لكسر سياج الصمت حيث لم يرد إبراهيم على هواتف عدة منذ تصريحه الأخير رغم أن الوصول إليه كان ممكنا، لكن ما فهمناه أنه لا يرغب في الحديث، ونرجو ألا يكون قال آخر كلماته وذهب..!!