(أي شيء هو المجد)؟! هكذا اختتم مقاله يصور المشهد المهيب، وقد انفض المشيعون وبقي وحده يراقب غروب شمس ذلك اليوم، خلف أفق أمدرماني ممتد يتمسح (بحمدالنيل)، حيث استقر المقام بمن أودعوه جوف ذات الأرض الذاكرة، التي اختارها لتكون مقراً لجامعة ارتبطت بأم درمان وإرثها من (الأهلية) و(التميز)، وما فرطت في ذلك حتى خرجت للناس الأسبوع الماضي تحتفل بعيدها الفضي. العبارة للبروفيسورعلى المك فى نعي صديقه البروفيسور محمد عمر بشير صاحب مبادرة (جامعة أم درمان الأهلية)، وبعدها شد الرحال بعيداً كأنه يبحث عن سلوى أبلغ، فلقد كان سفراً لأمريكا ورحيلاً من الدنيا، رحمهما الله.. تذكرتهما فور دخولي مقر الجامعة، وقد إزدانت هيبة وبهاء، تحضيراً وحضوراً تحفه مظاهر ترحاب سخي، وبشاشة طاغية بدت على وجوه اللجنة المنظمة، فضلاً عن قامة مديرها الأمدرماني بروفيسور كرار أحمد بشير عبادي، يقابل الكل بحميمية باذخة فأعادني المشهد إلى مقولة الراحل على المك، وهو يودع صاحب الفكرة، فقلت بيني وبين نفسي صحيح (أي شيء هو المجد)، لقد اختار أن يقترن اسمه بصرح تعليمي جزيل العطاء جيلاً بعد جيل. الحفل أقيم فى باكورة إحتفالات الجامعة بعيدها الفضي، وتبنى تكريم إثنين من عمدائها هما الدكتورة محاسن حاج الصافي العميدة السابقة للآداب، والبروفيسور صلاح الدين الفاضل خلفاً لها.. كلاهما ينعم بسجل حافل في المجال الأكاديمي والمشاركات الممتدة، فضلاً عن شهرة لازمتهما كل في مجاله، تواضع بلا هوادة، الدكتورة إشتهرت بنشاط فكري واجتماعي متواصل خارج المدرجات، وضمن أحد المشاريع الرائدة لجامعة الخرطوم (الدراسات الأفريقية والأسيوية) وتشهد لها الإنتخابات الأخيرة، مهمة دقيقة وفي زمن صعب.. أما البروف فمن مشاهير الإذاعة ولا تعرف من أين تدخل على سيرته الذاتية لتشهد له. أول الشهادات وردت على لسان مدير الجامعة بروفيسور كرار، فوصف المحتفى بها بأنها (قيمة أكاديمية) قائمة بذاتها، وأنها(عميدة عمداء الآداب في السودان)، نعم هكذا ، فأسكتنا.. أثنى على ريادة د صلاح كمدير سابق للإذاعة، وصاحب إسهام فى مسيرة تطور الإعلام، وتعزيز مناهج علوم الإتصال بالجامعات، الكاميرات كانت منصوبة، وهناك صحافيون وإذاعيون، فصلاح الفاضل(حالة إعلامية) وتجربة تستحق أن تروى للمتصلين بفنون الإعلام والإتصالات والإبداع، وهو حريص على أن يفعل ذلك بنفسه، متأثراً في ذلك بمناهج علمية عالمية حفية بالتوثيق. هذا الدأب المهني والأكاديمي مع صبر وانهماك وشغف فيما ينفع الوسائط والمجتمع، إنها منظومة السبل المفضية للتألق. عمل مديراً عاماً للهيئة القومية للإذاعة( 1994 ? 1998) فمديراً لأكاديمية السودان لعلوم الإتصال. مهنياً هو أنموذج لمدير(منتج)، ففي رصيده 99 مسلسلاً وبرنامجاً صداها باقٍ في الذاكرة (خطوبة سهير، الحراز والمطر، المنضرة، الحياة مهنتى، حزن الحقائب والرصيف، تحية واحتراماً) . حين غادر ما أحب ومن ألف حقق كسباً جديداً، درجة الماجستير في(التشكيل الإخراجي المسرحي) وأخرى (دلالة المكان في أعمال الطيب صالح).. أما الدكتوراة ففي(تخطيط وإنتاج البرامج الإذاعية) ويقول لنا في هذه الأثناء كمن يكشف عن سر إن الدكتوراة الثانية في الطريق وعنوانها (تكوين الصورة في دراما التلفزيون) ما شاء الله. في (حالة) صلاح تفاصيل، فإنه عام 1996 إلتحق بجامعة الخرطوم وتدرج بكلية الآداب (إعلام)، إلى أن أختير للعمل بالأهلية(2001) ليتولى عمادة الآداب الآن.. كسبه إبداعي أكاديمي(مزدوج) أنهى الجدل القديم (الموهبة أم الشهادة)؟! الدرجة العلمية عنده داعمة للخبرة، فعزز مسعاه توجه البحث العلمي المعاصر نحو(البحوث التطبيقية)، إن حاجة بلادنا اليوم لتنهض تستدعي ذلك بإلحاح. المناسبة تثير كوامن التعلق بالمجد والسعي إليه بدأب مهما اشتدت الصعاب، فهذه هى سيرة من استحقوا التكريم في بيئة (أمدرمانية) (أهلية) (جامعية) مولعة بالتفرد والكد والصبر، الثلاثة معاً. الإحتفالية أعادت للأذهان كيف اختمرت الفكرة في ذهن صاحبها قبل ربع قرن لتزدهر وتثمر، أي شيء هو المجد حقاً؟ (علم ينتفع به) وعلماء لا يموتون وأشجار تدنو ثمارها للكافة. الإحتفالية تثير الشجون والذكريات، فضلاً عن ما حفلت من عبر ودروس وضرب المثل فى الجد والكد والدأب.. كلنا نحتاج لذلك لنترك أثراً باقياً، تصوروا كيف يكون حال بلادنا لو أن كل من أنعم الله عليهم بالفكر والمال وإخلاص النية حريصون على (بصمة) تبقى فلا تغيب سيرتهم وإن غابوا، الحمد لله أن هناك أمثلة عديدة في بلادنا، أكثر الله منها.. هذه الجامعة مثال (لمبادرات أهلية) فاعلة وكذلك (مركز بروفيسور محمد عمر بشير للثقافة السودانية) داخلها و(مركز بروفيسورعون الشريف قاسم للغة العربية واللهجات السودانية) مديراً ومؤسساً في فترة صعبة، وبين الحضور مدير المركز الدكتور قمر الدين علي قرنبع، نجم توارى بعد تألق، ولقد ذكرته بطلته على التلفزيون فانتشى وتبسم. للأحاديث الجانبية إيحاءاتها اللافتة، ففيها أن المذيع الكبير عمر الجزلي محاضر هنا في(لياقة المذيع) يا للبشرى، وجاري إلى اليسار البروف عمر حاج الزاكي حدثنى عن حوافز في التعليم العالي لتشجيع التميز البحثي، وإحراز درجة (البروفيسورشب)، وعلى يميني بروف حسن أحمد الحسن يشاركني الإعجاب بلغة مقدمة البرنامج، وبمستوى الإستقبال والضيافة، مع إن بين منظمي الحفل من كانوا يتعالون على أحزانهم الخاصة - حفظهم الله . روح المناسبة جعلت الأشياء مفعمة بالتفاؤل، فطمعت فى المزيد، والتفت نحو المخرج عصام الدين الصائغ الأقرب(إخراجياً) للمحتفى به، لكن بعده عني حال دون كشف سر الألق الإخراجي الذي أتوقع أن يضيفه لأم درمان (القناة)، وإن كان يكفيها أن تبدأ من حيث إنتهى(الأمدرمانيون)، فإنها منسوبة لذات المنبع (أم درمان)، التى نسبت إليها هذه الجامعة، وتلك الأمجاد تاريخاً وإعلاماً، ويا للشرف الباذخ .