كثيراً ما كنت أسمع جدتي.. إذا أرادت المبالغة في كثرة الشيء تقول (كتير زي الهم في القَلُب).. بفتح القاف وضم اللام.. وأعجب كثيراً لهذا الوصف من إمرأة حظها من (العلم) تجارب الحياة.. وما يتعلم منها المرء.. وصدقت.. فكل إنسان قلبه مليء بالهم.. حتى قال شاعر: أنا على هم قديم مساور وأصحو على هم جديد مبادر وهذا القول يعني أن لا أحد يخلو من الهم.. وبعض الناس لا يكتفون بهمومهم الخاصة.. فهم يهتمون ويغتمون لهموم الآخرين أيضاً (وأحمل همي.. وهمك.. وهم الغير).. ولننظر إلى تعريف الهم من خلال صفحات المعاجم.. لنجد التالي: هم بالأمر.. وهمه الأمر.. هماً.. أي عزم على القيام ولم يفعله.. وهم لنفسه: طلب واحتال.. وهمّ الأمر فلاناً.. أقلقه وأحزنه.. وهم الشيء (بفتح الهمزة) أذابه.. يقال هم الشحم (بفتح الميم).. وهمت الشمس الثلج.. وهم السقم جسمه.. أي أذهب لحمه وأذابه.. وهم الأمر فلاناً تعني أثار اهتمامه.. والمهم هو الأمر الشديد الفزع.. والمهم أيضاً ما يدعو إلى الحيطة والحذر.. وجمعها مهام- ونسمع دائماً (تسلم مهام عمله).. فهل يعمل بالحيطة والحذر .. أم أنه ينساق وراء زهو المنصب.. ويترك الحبل على القارب (الكاتب).. والهم الحزن.. والهم أيضاً ما هم به الرجل في نفسه.. والهم: أول العزيمة وجمعها هموم.. والهم الهوى.. وهم الهوى يذيب الجسر.. ويشغل النفس عن كل شيء حتى الأكل.. قال شاعر في من جسمه ممتليء: لو كنت عذري الصبابة لم تكن سميناً وانساك الهوى لذة الأكل والهماهم هي الهموم.. وهمامهم النفوس أفكارها وما تهم به عند الريبة.. وهم الشيء (بالضم) سقط وضاع.. والناس يقولون: بحر من الهموم.. قال الشاعر حفني ناصف المتوفي عام 1919م وقد أهديت له عصا: فإذا طغى بحر الهموم ضربته بعصاي فاجتازت به الأقدام ويقولون جيوش الهموم.. قال شاعر يستغيث بالله عز وجل: إني دعوتك والهموم جيوشها قلبي تطارد فرّج بحولك كربتي يا من له حسن العوائد وكنت مرة في أمر بأحد الفنادق في مدينة ما.. وكنا نتخذ من ساحة الفندق مكان نوم لنا.. وهمني أمري كثيراً.. ولم أنم ليلتي.. والناس من حولي نيام.. وتذكرت قول جدتي لمن هو مهوم ومساهر (يرعى في الغنم.. أو يرعى في غنم إبليس).. وشعرت بأن أحد النزلاء على بعد مني.. مساهر هو الآخر.. فقلت في نفسي مخاطباً الرجل المساهر: مالك مثلي لم تنم وتبيت ترعى في الغنم إن كان همك واحداً فأنا لديّ جيوش هم ولا يخلو قلب من الهم.. رحم الله عمنا وشيخنا صالح ثابت.. كان إذا انقطعت عنه وجئته معتذراً بمشغوليات ما.. يقول: (سبحان الذي أودع في كل قلب ما شغله).. وصدق.. فالدين هم وصاحبه مشغول بالعبادة.. وإرضاء.. المعبود سبحانه وتعالى... وعمل الصالحات: وإذا حلت الهداية قلباً جدت في العبادة الأعضاء. والدين- بسكون الياء- هم.. يقولون عنه.. هم بالليل وذل بالنهار.. أي أن المدين يقضي ليله مهموماً كيف يخلص من هذا الدين.. وإذا لقي الدائن بالنهار.. يتوارى منه خشية أن يطالبه.. أو يتحرج هو أمام دائنه حتى وإن لم يطالبه.. والمثل يقول سيد دينك.. سيد رقبتك.. أي أنك تحس أنك عبد له .. وتحت سيطرته.. وهو من جانبه مهموم كيف ومتى يحصل منك على دينه.. فكلاكما مهموم. قلت في قصيدة عن الديون.. مستغلاً هذا المعنى: قاتل الله الديونüü أنّى تكون وكم تكون ذل النهار وهم ليلكüü إن خلدت إلى سكون والغني مهموم بأن يزيد غناه ليكون مثل أو أغنى من الآخرين.. والفقير مهموم كيف يقتات أبناؤه.. وكيف يتعلمون.. وكيف يتعالجون وكل ذلك يحتاج إلى المال.. والكريم مهموم بإكرام الناس.. وهو يجد متعة في ذلك.. وقد يستدين ليكرم شخصاً.. والبخيل مهموم بجمع المال وكنزه.. وهو يجد نفسه في هذا البخل.. ويصيبه الندم إن هو فرط في شيء.. والمجرم كل ما يمهه أن يحصل على ما يريد بغض النظر عن تبعات ذلك على المجني عليه الذي ربما يفقد حياته.. فهو مهموم دائماً بالتخطيط لجريمته وإنجاحها.. والسياسي مهموم بالحصول على الكرسي لا بالعمل من أجل الذين أجلسوه عليه.. والمريض مهموم بمرضه.. وكيف يتم شفاؤه.. ومن أين يحصل على المال اللازم للسفر.. أو العلاج المحلي.. ونرى على صفحات الصحف كل يوم عشرات الاستجداءات من مرضى لا يملكون قيمة العلاج.. وبعض الحالات تذيب قلب القاريء.. فما بالك بصاحب الشأن.. والمظلوم مهموم كيف يسترد مظلمته.. ومن يتطوع لإنصافه..والظالم مهموم بألا يعرف الناس ظلمه ويفتضح أمره.. لا أن يرد الحق لصاحبه.. ولكن لا يخلو الموضوع من طرفة.. مر أحدهم بطفل في الطريق ينصب شركاً فقال في نفسه مخاطباً إياه (تشرك لي طويرك.. من خلاني قديرك.. يا أب هماً فوق غيرك).. ولكن أطفال اليوم مهمومون بالحصول على (البلي استشين) والتي شيرت الذي عليه صور لاعبي كرة القدم العالميين.. والفنانين.. وأن يخرج بهم أهلوهم للحدائق. دار نقاش مرة في منزل ابن أختي سيف الدين السيد.. حول الهم.. وكان إلى جانبه الصغير محمد.. فسأل محمد أباه عن الهم.. فأراد الأب أن يبسِّط له الأمر فقال.. يعني يكون عندك حاجة أنت دايرها بشدة وما لاقيها.. ثم سأل الطفل.. أنت عندك هم.. قال محمد نعم.. عايز (إندومي).. فسبحان الذي أودع في كل قلب ما شغله.