بعد الهجوم الذي تعرض له رئيس الوفد الحكومي المفاوض ادريس محمد عبد القادر، كفاحاً، من خطيب الجمعة بمسجد الفتح بالمعمورة، مندداً باتفاق اديس ابابا الإطاري بين الحكومة ووفد الحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب، عقد عبد القادر مؤتمراً صحفياً بدار النفط في الخرطوم للدفاع عن موقف الوفد، وأهمية الاتفاق الذي توصل له. في خطوة تشيء بأن الاتفاق وموقعوه «بالأحرف الأولى» قد انتقلوا الى «مربع الدفاع» في مواجهة الهجمة الشرسة التي تعرض لها الاتفاق من جانب منبر السلام العادل، وعناصر التشدد ودعاة الانفصال من خارجه، وحتى داخل المؤتمر الوطني. ü معارضو الوحدة وطلاب الانفصال كُثر، لا يقتصر وجودهم على «الفئة القليلة» المنضوية تحت ما يسمى ب«منبر السلام العادل»، ويمكننا في هذا الصدد أن نركن الى الإفادات المهمة في هذه الصدد، التي أدلى بها القيادي بالمؤتمر الوطني أمين حسن عمر في حديثه الذي نشرته صحف الأحد، نقلاً عن المركز السوداني للخدمات الصحفية (smc).. رداً على سؤال يقول: هناك من يرى أن نية الإسلاميين أصلاً كانت مبيتة لفصل الجنوب، ونيفاشا مجرد سيناريو لاخراج هذه الرؤية؟ قال أمين حسن عمر، بعد فذلكة تصنف هذا الاتهام بأنه قائم على «فكر ساذج» استناداً الى أن «السياسة العلنية» للحركة الإسلامية آزرت الوحدة، قال إن الحركة الإسلامية «لم تكن كلها متفقة على الوحدة، والدليل على ذلك أن هناك منبر اسمه «منبر السلام العادل» (خرج من بطنها) معترضاً على هذه السياسات».. وأضاف- «والدليل على ذلك أيضاً- أن هناك كثيرين داخل الحزب نفسه ظلوا ولم يخرجوا وكان عندهم تحفظات، ولكن التيار الأغلب الذي عبرت عنه المؤسسات كان مع الوحدة»، وأردف: «أنا شخصياً -أقول لكم سراً- لم أكن مع الوحدة ليست لأنها (كَعَبةَ) بل لأنها غير واقعية وغير ممكنة». ü هذه الصورة (الأمينة) التي نقلها لنا د. أمين حسن عمر، عن الموقف من الوحدة وواقعها، وسط إسلاميي المؤتمر الوطني، تفسر لنا الأسباب الكامنة وراء فشل اي محاولة لتجسير الهوة بين الشمال والجنوب، أو حتى إقامة مجرد «جوار حسن» معه يريح شعب السودان في شطري الوطن المنقسم من حالة التوتر والحروبات.. فمثلما هناك قوميون انفصاليون في الجنوب، هنا أيضاً وطنيون «شوفينيون» ومتطرفون دينياً، يرون في الوحدة معوقاً لمشروعهم السياسي والاجتماعي القائم على رؤية «وحدانية انعزالية»، تفرق ولا تجمع في سبيل طموحاتها الإقصائية. ü بدا ادريس عبد القادر- وبحكم هذا الواقع الذي يدركه داخل حزبه، وبحكم ما حاق من قبل باتفاق «نافع-عقار» من ذات القوى خارج الحزب وداخله- بدا في مؤتمره الصحفي «متوسلاً» يبحث عن تبريرات «منطقية» للاتفاق الإطاري الجديد، ومن بين هذه المبررات قوله «بتنا نخشى أن يفتن الناس في دينهم» وأبدى أمله في أن يكون كل أئمة المساجد «مع الاتفاق لا معظمهم» وكشف عن لقاء يكون معهم «بأعجل ما تيسر وأن بركتهم لاحقة، ولكنهم يريدون دعوات الكل». وبذات اللغة المتوسلة خاطب جماعة منبر السلام قائلاً: «يا معشر المنابر.. ومن قمتم بالفورة دي، أليس لكم شوق لنشر الإسلام في افريقيا». ومن بين المبررات التي ساقها لابرام الاتفاق قوله: «الاتفاق الأخير فيه مصالح دينية ودنيوية، فالأولى بنشر الدين في الجنوب وبقية أجزاء القارة، أما الثانية فتتعلق بالتجارة الحدودية، وحركة الرعاة، ومصالح السودانيين المقيمين في الجنوب».. ومن ذلك أيضاً قوله «إن العربية لما تُوحل بترجع للوراء» واستدرك: «نحنا ما وحلانين، ولكن ثمة من يريد أن يغرقنا في الوحل». ü انتقال الاتفاق الجديد «لمربع الدفاع» يمكن أن نلمحه أيضاً في إفادات نائب رئيس الجمهورية رئيس القطاع السياسي بالمؤتمر الوطني للصحافيين، عقب اجتماع القطاع يوم الأحد، حيث ذكر أنه ليس هناك «اتفاق حول حريات أربع» وأنه مقترح حول تلك الحريات ويخضع لاعتماد الرئيسين في القمة المرتقبة، ولتطمين جماعة المنبر وأحزابهم قال الحاج «التيار العنيف الرافض ما فاهم حاجة، لأنه لم يملك المعلومات الصحيحة»، وشدد في الوقت ذاته على أن «هذه الاتفاقيات لا يمكن أن تمضي والوضع الأمني بين البلدين متأثر، وهناك حرب في الحدود بين الدولتين» وزاد: «نحن كمؤتمر وطني نقول إن الحرب تدعمها حكومة الجنوب، وكذلك الحركات المتمردة، وتنطلق من حدودها» وأضاف «أن المؤتمر الوطني يطالب حكومة السودان بأن يتم التداول أولاً في الملف الأمني لوضع حد للخروقات الأمنية» وجزم بأن «الاتفاق الذي وقع حول الحدود لن يجد طريقه الى النفاذ إلا في جو آمن لهذه الحدود». ü كل من يتأمل في هذه الإفادات والتصريحات الصادرة عن رئيس وفد التفاوض إدريس عبد القادر، أو عن نائب الرئيس الحاج آدم، يقتنع منذ الوهلة الأولى بهشاشة الاتفاق الذي أقدمت عليه الحكومة مع الحركة الشعبية، فبين حالة «الوحل» أو محاولة البعض «توحيلهم»- التي عبر عنها عبد القادر- وبين رهن الاتفاق مع الجنوب بوقف الحرب الدائرة في جنوب كردفان والنيل الأزرق، التي يُحمّل المؤتمر الوطني وزرها- بشكل كامل- لحكومة الجنوب، يبدو أن اتفاق أديس أبابا الجديد لن يجد طريقه للتنفيذ ولا حتى أجزاء منه. فالاتفاقات والتفاهمات حول الحدود أو المواطنة والجنسية والحريات الأربع أو النفط، رهينة كلها بوقف الحرب، تلك الحرب التي تمددت الى النيل الأزرق، بعد إجهاض اتفاق أديس أبابا السابق بين د. نافع علي نافع ومالك عقار، ولا يزال الحبل على الجرار. ü صحف الأمس نقلت عن الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة قولهُ: «إن الحركة الشعبية وبدعم مباشر ورعاية وقيادة حكومة جنوب السودان خططت للهجوم على عدة مواقع بجنوب كردفان، وإن القوات المسلحة في أكمل حالات استعدادها للتصدي لاي عدوان مزمع من حكومة الجنوب» وإذا ما تحققت توقعات الناطق الرسمي بأن يتم هذا الهجوم من جانب حكومة الجنوب «خلال اليومين القادمين»، فهذا يعني ببساطة غياب الإرادة السياسية لدى الطرفين الموقعين -بالأحرف الأولى- على الاتفاق الإطاري، وأن الأمر لم يكن برمته أكثر من مناورة بائسة، ولا يملك أي منهما وضع ما اتفق عليه موضع التنفيذ، وأن الطرفين يسيران نحو «الحرب الشاملة» التي هي هاوية بلا قرار مغمض العينين، يدفعهما المتطرفون والمتعصبون هنا وهناك، فينطبق عليهم المثل السوداني البليغ «المكتولة ما بتسمع الصايحة»، أما الشعب في الوطن المنقسم شمالاً وجنوباً فلا بواكي له، فهو ضحية أجندة التآمر الدولي من جهة، وضلالات التعصب الأعمى، والتنطع من جهة أخرى.. ونخشى أن ننتهي الى قناعة متشائمة بأن «هذا الشعب وهذا الوطن نافذ فيه قدر» أو الى قول سعد زغلول يندب حظ مصر، ويخاطب حرمه وهو في النزاع الأخير: «ما فيش فايدة.. يا صفية»!