عند زيارتي له عليه رحمة الله ورضوانه، في مقر إقامته بجدة برفقة سعادة الفريق أول عمر محمد الطيب نائب رئيس الجمهورية «سابقاً»- اهداني فخامة الرئيس القائد جعفر محمد نميري- نسخة من كتابه «جعفر نميري.. الرجل والتحدي» مع إهداء جميل على غلافة الداخلي.. أحسست وقتها بأن الرجل قلدني وساماً.. من تلك الأوسمة الراقية التي كرم أبناء وطنه المخلصين في كافة مجالات الحياة.. ولا يزال صدي تلك الكلمات التي خصني بها تشكل حلقة من الوفاء لهذا الرجل العظيم، كان ذلك في 15/11/1992م بالمملكة العربية السعودية- جدة تحديداً. عبرت بهذه المقدمة- لأسجل هنا في حب وصدق.. أجمل ما يمكن أن يسطره قلم وفيّ. وقلب ذاخر بإنسانية رجل قامة.. ومباديء وقيم وانتماء أخلاقي لا يتزحزح قيد أنملة- لحياة كان لنا فيه «عليه رحمة الله»- القدوة والمثل.. في كل شأن مارسنا فيه السلطة بشفافية وأمانة وصدق، خدمة لهذا الوطن العظيم.. وشعبه المتطلع دائماً إلى حياة حرة كريمة. في الذكرى الثالثة والاربعين لثورة الخامس والعشرين من مايو المجيدة.. التي ستظل معلماً مهماً في تاريخ السودان الحديث.. وكتاباً لمعالم الطريق نحو الحكم الراشد، وتمكين سلطة الجماهير.. أتوقف لبعض الوقت مترحماً على قائدها الفذ الشجاع الرئيس القائد جعفر نميري- الذي ارتحل إلى الرفيق الأعلى قبل ثلاث سنوات.. وشيعته الأمة السودانية في موكب مهيب إلى مثواه الأخير، في مشهدلا يملك الإنسان مهما أوتي من لغة البيان أن يصف مهابته وعظمته.. ألا رحم الله جعفر نميري رحمة واسعة بقدر ما قدم لوطنه وشعبه وأمته العربية والإسلامية، وأدخله فسيح جناته مع الصديقين والشهداء.. وحسن أولئك رفيقاً.. تمر علينا هذه الذكرى الجميلة لتعيد إلى عقولنا شريطاً طويلاً من التاريخ.. وفصولاً من الأحداث والمواقف.. وزماناً- هو بكل المقاييس- أفضل وأنقى حالاً من أي زمان عشته.. أتمنى من أصحاب القلم والشاهدين على العصر، أن يعيدوا كتابة تاريخ تلك المرحلة بشفافية وصدق.. وأن ينصفوا قادتها ومفكريها ومن أسهموا في صناعة وإدارة تلك الحقبة من تاريخ أمتنا المجيدة.. مايو عصر جميل.. وزمن جميل لا يغيب عن ذاكرة الأوفياء.. ولا يرحل إلا لمتابع الجمال والمساء.. في كتابه «جعفر نميري.. الرجل والتحدي».. أوضح الرئيس القائد «عليه رحمة الله» أن تفجير ثورة 25 مايو 1969م- لا يمكن أن يستوعبها أولئك العابرون في أزمنة التيه والشتات والتحزب الأعمى.. لأن شمول التجربة لا يتيح لجهد منفرد مهما أخلص أن يلم بكل جوانبها- وإن استطاع- فإن قدرته على العرض والتحليل تظل قاصرة على ربط المقدمات بالنتائج.. المسببات بالأسباب.. ذلك أن حجم التغيير الذي تحقق لا يمكن أن يقاس بانجازات تم تحقيقها، أو مشروعات أقيمت هنا وهناك، أو سياسات تبدلت.. أو ارتباطات دولية واقليمية اتخذت شكلاً جديداً.. كان التغيير في 25 مايو 1969م يهدف إلى: 1. إقامة سلطة الدولة القادرة على استيعاب تطلعات الجماهير نحو حياة أفضل. 2. استبدال السياسات الخارجية القديمة بأخرى متطورة، تتناسب مع حجم السودان وموقعه المؤثر، وتعدد انتماءاته عربياً وافريقياً. 3. تأسيس مشاركة جماهيرية حقيقية في السلطة، كبديل للتمثيل الوهمي للجماهير في مؤسسات لا تنتمي الجماهير إليها، ولا هي تعبر عن إرادتها. 4. تكثيف الخدمات لراحة المواطنين، والعدالة في توزيعها، ارتقاءً بها، بحيث تكون شاملة وكافية، مع متطلبات الحاضر والمستقبل. 5. انحياز يعيد توازن المعادلة الاقتصادية والاجتماعية المهددة بالخلل. - وهذه كلها وسائل وليست غايات.. أدوات وليست أهداف.. نعم.. ما استهدفته ثورة 25 مايو المجيدة كان في حقيقته، ثورة حضارية، بأكثر منها ثورة لها أبعادها التقليدية المعروفة في مجالات السياسة والاقتصاد:- ü فقد طرحت الثورة شعار الوحدة الوطنية، فتكالب عليه أعداء الوحدة الوطنية. ü طرحت هدف بلورة القومية السودانية فزايد عليها المحسوبون على القومية العربية، باعتبار أن الدعوة الأولى مناقضة للدعوة الثانية- غير مدركين بأن السودان موحد، هو إضافة قوة للأمة العربية، بينما السودان ممزق هو طعنة للعروبة من داخله وليس من خارجه. إن دور المؤسسات السياسية والدستورية قد تحقق قبل أن تقوم، وأن قيامها والثقة فيها، لم تكن هبة حاكم، ولا منحة قائد.. وإنما هي حقوق شعب، حقوق مارسها بعفوية ومن غير تنظيم، وهو أقدر على الحفاظ عليها بعد أن انتظمت صفوفه وتوحدت إرادته، واختبرت قدرته عبر مواقع، وليس عبر مواقف، في ساحات نضال، وليس في ساحات مزايدة.. بالكلمة.. حماس بالشعار وللشعار.فالاتحاد الاشتراكي السوداني- رغم الهجمة الشرسة عليه- شكل بوصلة الحكم في قاعدته وجماهيريته المنتشرة في كل أنحاء البلاد، سلطة سياسية فاعلة وحاكمة.. وهو بكل المقاييس تجربة فريدة ورائعة، انتشلت فئات متعددة من براثن الحزبية والطائفية، وارتقت بهم إلى مصاف المواطنة الحقة.. والانتماء الرشيد. ومجالس الحكم الشعبي المحلي، الأداة التنفيذية الجماهيرية التي أدهشت الدنيا بأدائها المميز، وانجازاتها الرائعة الماثلة للعيان حتى يومنا هذا، وهي تجربة يجب ألا نمر عليها مرور الكرام.. ذلك أن مردودها كان بكل المقاييس رائعاً ومميزاً، وأوجدت كادراً قادراً على القيادة والريادة. والمنظمات الجماهيرية والفئوية.. الاذرع الممتدة بالنشاط والعمل في ميادينه المختلفة.. والسواعد التي شيَّدت وعمَّرت المدارس، والمراكز الصحية، والطرق.. أكدت أنها رائدة العون الذاتي الذي كان برنامجاً للحياة، تم تطبيقه بمثالية وقدرات خلاقة.. إن الإبداع الجماهيري الذي صنعته تنظيمات الثورة المختلفة من وحدات أساسية، ومجالس شعبية، ولجان تطوير القرى- واتحادات الشباب، واتحادات النساء، ومجالس الآباء والمعلمين، وفروع العمل بمواقع العمل، كان بحق انجازاً مشهوداً في كل مجالات الحياة.. وكان بحق عطاءاً خلاقاً لا مثيل له.. وصروحاً لا يمكن وضعها إلا في خانة الأعمال الوطنية الخالصة. كما أن تجربة الحكم الشعبي المحلي، والتي أبدع فيها د. جعفر محمد علي بخيت عليه رحمة الله، ستظل هي الأكمل والأشمل في السودان، مهما حاول البعض القفز فوقها، وتجاهل رصيدها الغني بالانجازات والأعمال العظيمة. وقد دعمت الرأسمالية الوطنية ممثلة في رجال الأعمال «القلائل» في ذلك الوقت، كافة المشاريع الوطنية والتنموية بأصالة المواطن السوداني الشهم، الغيور على وطنه.. وشكلت إضافة حقيقية في مجالات العمل الوطني والطوعي والإنساني.. وإن كان هناك سؤال ملح يطرح نفسه اليوم؟! أين الرأسمالية الوطنية اليوم- وقد غدت أعدادهم بالآلاف؟! أين اسهاماتهم في بناء الوطن؟! وأين دعمهم في إنشاء المدارس والمراكز الصحية.. والمساجد؟! كانت الرأسمالية الوطنية في مايو.. في كل مدينة وكل حي وكل قرية.. مدارس هنا، ومساجد هناك.. ومراكز صحية ومستشفيات هي ماثلة للعيان إلى يومنا هذا.. معالم لا تخطئها العين.. أين هي الفعاليات الشعبية والجماهيرية اليوم؟! أين التنظيمات الخدمية.. ولماذا الغي دور الضابط الإداري، وهو مهم جداً؟! أقول للإخوة في المؤتمر الوطني بكل حب وود.. راجعوا التجربة المايوية في العمل السياسي والحكم الشعبي المحلي.. ستجدون معاجم للعمل الوطني الصادق والناجز. ستدركون أنكم قد اهملتم بقصد أو دون قصد، تراثاً رائعاً وتجربة فريدة، كان لها أثرها في الواقع ودورها في الحياة.. أعيدوا للحكم الشعبي المحلي نكهته الجماهيرية، ودوره الفاعل في بناء المجتمع- دون هذه المميزات والوظائف لأنها لم تنجز شيئاً.. أعيدوا لرجال الأعمال دورهم في النهضة والعمران والمساندة في الأعمال الوطنية. وفي خضم هذه الذكرى العظيمة لثورة 25مايو المجيدة.. وتعظيماً لقائدها الفذ عليه رحمة الله الرئيس جعفر نميري.. أرجو مخلصاً من فخامة الرئيس المشير عمر البشير حفظه الله ورعاه.. أن يكرم أخاه ورفيق دربه- الذي كان يرحمه الله يلهج لسانه بالتقدير والعرفان له لمواقفه الشهمة والكريمة معه.. أطلب منك يا سيادة الرئيس:- أولاً: أن يطلق اسم الرئيس جعفر نميري على معلم مهم بالعاصمة المثلثة تقديراً وتخليداً لذكراه العطرة. ثانياً: إعادة «حجر الأساس» لكل المنشآت التي قام بإنشائها.. وهي معالم مهمة جداً بالبلاد، نزعت من أماكنها ظلماً وعدواناً خلال حقبة الصادق المهدي تحت شعار «إزالة آثار مايو»، وهو يدرك أو لا يدرك أنها انجازات للوطن ومعالم تتحدث عن نفسها حتى اليوم وتقول «أنا مايو». تحية لثورة 25 مايو المجيدة.. وتحية لأولئك النفر العظيم من قياداتها.. الأحياء منهم والأموات.. الذين أجزلوا العطاء.. وأقاموا البناء.. وخرجوا شرفاء.. وللجماهير المايوية الوفية، التي لا زالت على العهد، وفاءاً، وانتماءاً.. يغمرها حب الوطن.. وتقدمه وازدهاره دائماً.. همسة أخيرة للإخوة في المؤتمر الوطني: «نحن نلتقي بحمد الله في مواقف مفصلية مهمة.. ونشد من أزركم فيها.. ونختلف في قضايا ذات مساس بأس الحكم.. نؤمن بأن الحوار الهادف الجاد هو مبتغانا للوصول إلى أهدافنا في سلام».. ü أمين المنظمات الجماهيرية لمنطقة الخرطوم بين النيلين للاتحاد الاشتراكي السوداني(سابقاً)