لم يفق الصحفيون بعد من صدمة التدهور الكبير في عالم صناعة الصحف، بحسبان أنه يهدد استقرار المهنة والعاملين بها، ويشرّد منهم الكثيرين، حتى صدمتهم مواقف بعض الناشرين أو المؤسسات الصحفية التي أغلقت أبوابها - بالضبة والمفتاح - وانسحبت من عالم الصحافة، وهي مواقف متصلة بحقوق العاملين في تلك الصحف، بل وصل الأمر بإحدى المؤسسات الصحفية التي اختارت إغلاق الباب الذي يأتي بالريح، وصل بها الأمر إلى (إجبار) الصحفيين الذين كانوا يعملون بها إلى (تسوية) يخرج منها الصحفي بمرتب شهرين (فقط) تاركاً كل ماله لدى تلك المؤسسة، التي أقدمت على الغطس في وسط محيط الصحافة، وهي لا تجيد السباحة.. ولا تملك طوق نجاة. لقد كان موقف هذه المؤسسات ب(فرض) التسوية مخيفاً بالنسبة لكثير من الصحفيين بأتوا مهددين ب(إلغاء الوظيفة) أو الاستغناء عن الخدمات، في كثير من الصحف التي تصدر اليوم لارتفاع تكاليف صناعة الصحافة. لازال الكثيرون يذكرون المسلسل التلفزيوني المصري (زينب والعرش) للكاتب الصحفي الكبير فتحي غانم، وقد تم عرض هذا المسلسل في أوائل ثمانينيات القرن الماضي بالسودان، ووجد اهتماماً كبيراً ومتابعة مستمرة من مشاهدي التلفزيون السوداني وقتها، في وقت لم تكن هناك قنوات فضائية منافسة، وتقوم قصة المسلسل وتنبني عن عالم الصحافة وبلاط صاحبة الجلالة الذي يتنافس فيه المتنافسون للوصول إلى العرش، حيث النفوذ شبه المطلق والعلاقات غير المحدودة، والاقتراب من مراكز اتخاذ القرار والتأثير عليها. هكذا كانت الصحافة، ليس في مصر بل في كثير من دول العالم، وظلت الصحافة في السودان أحد أهم مراكز التنوير المعرفي إلى أن دهمتها الأزمات الأخيرة التي لا نشك في أنها (مصنوعة) لأن حل الأزمات في أيد كثيرة، أكبرها يد الحكومة التي لن تصفق وحدها إن أدخل التجار ومستوردو الورق وأصحاب المطابع أيديهم في جيوبهم ولم يرفعوها للمساعدة بالدفع في طريق الحل أو الدعاء من أجله. مشكلة الصحافة إلتقطتها لجنة ترقية أخلاقيات المهنة داخل مجلس الصحافة والمطبوعات التي يرأسها صديقنا الشيخ النقابي الجليل عباس الخضر الحسين، ورأت أن تنظم ملتقى يتناول جانباً من جوانب الأزمة هو (حقوق وواجبات الصحفي) وأعد زميلنا الدكتور ياسر محجوب الحسين ورقة بذات العنوان، ونحسب أنه من أكثر الناس اكتواء بالنار، وصاحب تجربة مريرة في هذا المجال، وقد أعد وقدم يوم الخميس الأول من أمس، ورقة مهمة ارتكز فيها على قواعد العمل والتجارب الذاتية، وخرج بتوصيات أهمها في نظري بناء مؤسسات صحفية قوية قادرة على تقديم رسالة إعلامية قاصدة وفعالة ومؤثرة وإيجابية من خلال تطوير قطاع العمل الصحفي وتحويله إلى كتلة صناعية قوية متعددة العمليات الإنتاجية، تستوعب الأساليب الحديثة في المجال بما يحقق القدرة والكفاءة الاقتصادية. دار نقاش كثير ومستفيض شارك فيه عدد كبير من الذين كانوا ضمن الملتقى الذي كان أقرب إلى ورشة عمل.. وقد رأينا أن حل المشكلة لن يكون إلا إذا تعامل الناشرون ب(علمية) تامة مع (العملية) الصحفية وحققوا ما يمكن أن نطلق عليه (التوافق) بين علاقات الإنتاج، بدءاً من التحرير مروراً بالإدارة والجوانب الفنية والطباعة والتوزيع.. أما ما لم يجرؤ الكثيرون على قوله فهو موقف الحكومة السلبي من الأزمة، حتى أننا بتنا نوقن ولا نشك في أنها لا تريد صحافة.. ولا صحفيين.