حينما انتوى القاش أن يغازل كسلا ويستبيح جروفها ويطمرها بفيض عنفوانه.. كان يعلم بأن «التاكا» حبلى «بالدهشة» التي تمثلت بشراً سويا.. مكتمل الأركان.. خفيض الجنان.. دافق الحنان.. صادق الوجدان.. منذ صباه الباكر.. كانت خطواته ترسم تعرجاتها.. على أرصفة كسلا وعلى شوارعها وأهلها.. أحب اخضرارها ونضارها وعشقت لهفته.. وشاعريته.. وعذوبته.. أنضجه جمالها وسحرها.. وفكت سواقيها قيود شياطين شعره الموسوم روعة.. ومغايرة.. سهولة وسلاسة! لم يعافر يوماً الأقدار فهو مستسلم برضا وقناعة «مشي أمرك يا قدرك كل أحكامك مطاعة».. يتماهى الرضا والتسليم.. مع التركيبة الانسيابية لشخصية وادعة.. مخلصة حد القداسة.. وفية لدرجة الإذعان.. محبة حد النزق.. هو أعز الناس.. عند شعب يحتفي بالرائعين بطريقته الخاصة.. لأنه يتعلم من الأيام.. ويعرف كيف الريد.. للذين سكبت عليهم الشمس ألق البهاء واختصتهم بكل وهجها وبريقها..! غرف الحلنقي من التحنان.. والصبابة.. فتدفقت المعاني الولهى المحرضة على نصب الشراك التي تقتنص في كل يوم مزيداً من ضحاياه.. إن الشعَر والأمنيات العِذاب.. تتسق مع ذاك البوكيه الأنيق من الورد والأقاحي. هاجر الحلنقي.. كهجرة عصافيره في ذاك الخريف الحزين.. الذي استعصمت غيماته.. وضنت بالهطول ثلاثة عقود.. بالمهجر.. ولم يتناول يوماً فنجان قهوته في غير كسلا.. ويطوف بأركانها وشوارعها ومراتعها.. ويقبل بيوتها وأهلها.. يغترف من القاش بكلتا يديه رحيق الصمود حتى في موسم الجفاف.. لقد علمته الغربة معنى أن يسري ويعرج روحاً بلا جسد.. حيث يطيب له مقام الأشواق! الحلنقي علامة بلا شك.. في خارطة الشعر بكل انتمائه للشفافية المترفة.. والرقة المتناهية حد الانشطار والانقسام والانهزام أمام سطوة الخير والجمال.. زاوية أخيرة: لو كنت مكانك يا وطني لمنحت الحلنقي الشفيف النظيف وسام الإبداع من الدرجة الأولى وعبدّت الطريق باسمه حتى ضفاف القاش وتخوم التاكا..!