راي: د. عبد الرحيم عبد الحليم محمد رأيت فيما يرى النائم أنني أتسامر مع ابن عمتي الموسيقار محمد سراج الدين ملحِّن أغنية «مظاليم الهوى» الشهيرة التي يؤديها بشجو تطريبي عالٍ الموسيقار الفنان محمد ميرغني. وربما جاء الحلم تعبيراً عن انشغالي الشديد بذلك النفَس التظلمي في أغنياتنا (لا الظلامي طبعاً فهذا لم يخطر ببالي).. فيما يبدو لي أن كل أغنياتنا إما تظلمية أو بكائية أو حنينية أو وطنية، وما بين لقائي بملحن المظاليم وتذكر أزمنة مصطفى سيد أحمد، وتجليات الكابلي، ومحمد ميرغني، في حضرة العمة المرحومة ست نور بت السيد بأسورتها العاجية الجميلة، وودعها وعطورها المدهشة في بيتها الوتري بالسجانة، كان حواري عبر الفيسبوك مع شقيقي محمد الكامل على وزن محمد الواثق «المقتول بالكمد» عن مناخات الأغنية السودانية وغناء المظالم، وقد كان حواري الإسفيري مع الكامل مدعاة للتأمل في شأن أصحاب المظالم الغرامية، الذين لا ولم يجدوا أحداً يواسيهم، وتركوهم في حالة مسيح عاشق مصلوبين على جرح المعاناة، لينتجوا للناس شجواً آسراً يستمعون إليه ويطربون. 2 في حواري الإسفيري مع الكامل، أتيت على ذكر ذلك اللقاء الإذاعي الذي كنت فيه ضيفاً على برنامج «منازل القمر» وربانته القديرة الشاعرة روضة الحاج، ليس كعرجون قديم، وإنما كقمر سار في يوم من أيام الجميلة حافياً حالقاً في الطريق الشاقي الترام، بالقرب من دار الإذاعة وحولي أحجية وأحجبة من عناقيد الغناء الجميل... الغناء الشلوخ المطارق لمنى الخير، وهديل الحاوي، وشجون الكاشف، والنظرة ماشي وراك لعبيد الطيب، هناك في ضروع إذاعتنا العظيمة الأرشيفية المدهشة، في انتظار بدء التسجيل، كنت أتسمع في أستديو سرور تعليقاً مدخلياً رفيعاً نحو أغنية قادمة، حيث أبان المعلق أن الأغنية تلك مظلمة غرامية شهدتها ساحات الإذاعة عندما قام بتسجيلها الفنان الراحل عبد المنعم حسيب عام 1959م : كل ما سألت عليك صدُّوني حرَّاسك وقالوا الكلام قاسي مع إنِّي من ناسك. 3 خرجت من دار الإذاعة فكانت سقاية الليمون الجميل على الراحلة عاشة الفلاتية (اللهم إن مغفرتك لعائشة لا تضرك)، تتلبسني حالة شجو خاص لكوني من محبي أغنية حسيب تلك بشكل خاص، والأغاني القديمة بشكل عام، في حوش الإذاعة، فاضت بي المظالم الغرامية لدرجة أنني كدت أن أشن غارة على أماكن رهائن الحب من مغنيينا وفكهم من أسرهم أينما ازدحمت بهم غرفة إذاعية أو أرشيف. دعوت لأرواحهم بالشفاء في حضرة من يحبون باحثاً عبر الموقع الالكتروني المتفرد للإذاعة على يد ربانها القدير الأستاذ معتصم فضل، والفريق العامل معه لأقف على مظلمتين أخريتين «ما شقيتك» للراحل حسن سليمان الهاوي، وشاعرها الراحل خضر حسن سعد و«يا عيون أبكي دمع الدم» للراحل حسن الدابي وغناها الراحل النعام آدم. 4حدثني الكامل عن شاعر«ماشقيتك» وظروف إنتاج المظلمة، ومعاناة شاعرها من إجبار محبوبته على الزواج من غيره، وكيف أن خالنا المرحوم عبد الغني الطيب بالسجانة وصديقه الفنان حسن سليمان عاشا مع الشاعر مواجده وحالات عذابه وإحتراقه بنيران الحب ومناخات التظلم.. بحثي الخاص يحدِّث عن حالة كحالة الشاعر إدريس جماع أصابت الشاعر، لقد فتحت لي حلقة دار الإذاعة نافذة لتأمل مرهق ومرهف وحنون للمظالم في تراثنا الغنائي، ويا حبذا لو تضمنتها كتابات أستاذنا الكبير معاوية حسن يس، فينتقل من مرحلة التأريخ الغنائي- وهو أمر برع فيه- إلى التصنيف والتحليل للمضامين، وفي هذا الإطار، توقفت كثيراً لدى يا عيون أبكي دمع الدم للنعام آدم، ما لفت نظري في الأغنية، أنها هي الأخرى مظلمة غنائية نراها تستخدم وبشكل جلي مفردات الأحكام القضائية والنطق بها في ساحات المحبين: قالي عليكا برضي حكمْ ما دام عاينت برضك أجرمْ تلك مفردات تميز المظالم والمحاكم فهي تختلف بالطبع عن حالات العشق السلسة التي استخدمها النعام آدم في أغنيات أخرى مثل «الزول الوسيم» و«سمح الخصائل» و«المنقة منقولة» و«سمح الزي»، هذا بينما استخدم شاعر «ما شقيتك» مفردتين قانونيتين هما «نص» و "«مراعاة»: راعي نص الهوى والغرام 5-حسيب والهاوي والنعام وقفت أمام قلوبهما قسوة مجتمعية، كان فيها الرد صد الحراس، وظلم الأحبة، ومنعطفات التوجع والشكوى.. في شرعة الهوى تتفاوت أحوال المحبين وتتقارب.. حسيب والهاوي والنعام ضمَّنوا تظلماتهم «مطارف» أو «مخدات غرامية» للدمع والتوسل، فهم في غمرة إيضاح جوانب التظلم نراهم يحشدون في أغنياتهم أبعاداً توسلية، تكاد تنسيك موضوع المظلمة الأصلي فهنا الهاوي: بى خيالك لو كان لقيتني تحي صبا ترعى الزمام وهناك النعام : لهيجو كمين نحل منلمْ فاطرو بريق سحابو رزمْ جديَّن دابو قرنو برم في وديانو نال وسلمْ. ويبقى حسيب هو الأبعد مدى في عدم الإسراع لرفع مظلمته الغرامية متوخياً الصبر والأمل والرجاء: يا غالي يا غالي يا الديمة في بالي لو في هواك يا جميل تتحطم آمالي أنا برضي بستناك والصبر يحلالي. وبعد هذا الشغب عقدت العزم على التوقف عن رفع المظالم للمهندس الحاج عطا المنان ومصطفى أبو العزائم، تاكلاً كحسيب أمري على الله ومردداً مع النعام آدم : تراني بغني واترنم بجرُّوا مع الخيال النمْ.