قبل أيام تأمّلنا، أنا ومجموعة من الأصدقاء، صورةً تاريخيةً نادرةً، نشرتها الزميلة «اليوم التالي» للزعيم الراحل محمد أحمد المحجوب رحمه الله.. الصورة قويّة وتحمل دلالات قوية وعميقة!! فالمحجوب كان يخطب في الخرطوم، أمام حشد به عدد من الملوك والزعماء العرب، منهم جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، والملك حسين بن طلال، والرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر!! المحجوب كان يتكلّم، والزعماء العرب ينصتون له بأهتمام، ونظراتهم ترسم قدراً كبيراً من التقدير والاحترام لهذا الزعيم السوداني!! تأمّلنا هذه الصورة وأدرنا حواراً حولها، وقلنا إن هذه «الأهمية» جاءت في المقام الأول «للدولة» وللنظام السياسي الذي ينطلق منه المحجوب، إضافةً لذلك شخصيته وقدراته وابدعاته ومؤهلاته التي لا يستطيع أن ينكرها أحد!! فالمحجوب إذا جاء من دولة مهيضة الجناح ومهزومة ومأزومة ومثقلة بالهموم والمشكلات والحروب والانقسامات والفقر والجوع والمرض، فلن يلتفت إليه أحد، ولن يكلّف أي زعيم أو قائد عربي نفسه مشقةَ السفر أو الحضور لعاصمة هذه الدولة، أو الاستماع والإنصات بهذا القدر من الاهتمام الذي جسّدته الصورة المنشورة في «اليوم التالي» للزعيم الراحل محمد أحمد المحجوب!! الآن حالنا كسودان بعيدة تماماً عن نموذج الدولة التي كان يمثلها المحجوب، سواء كان رئيساً للوزراء أو زعيماً للمعارضة ففي الحالتين هو حاكم وصاحب سلطة!! عندما جاء الملوك والرؤساء العرب للخرطوم في العام 1967م، كان السودان يمثل ثقلاً عربياً وإقليمياً ودولياً واضحاً، ولعب آنذاك من خلال قمّة الخرطوم التي عرفت بقمة اللاءات الثلاثة، وسُمّيت الخرطوم عاصمة الصمود العربي، قام السودان في ذلك الزمن بتضميد جراح الأمة العربية، وتم الصلح بين الملك الراحل فيصل والمرحوم جمال عبد الناصر الأمر الذي مهّد لحل مشكلة اليمن آنذاك!! الآن التاريخ لا يعيد نفسه، والخرطوم تبحث في بوابات مطارات العواصم العربية والأجنبية عمّن يضمد جراحها، ويعيد لها أمنها وسلامها المفقود، وانشطرت أرضها وأضحت دولتين، وحتى «الجزء الباقي» لن يسلم من ويلات الحرب والاقتتال وإلى حين إشعار آخر!! الدنيا من حولنا تتغير، والمتغيّرات في الحكم تسري في عالمنا العربي بصورة أو بأخرى، في شكل ربيع عربي أو في طرق اصلاح واستجابة لدواعي ورغبات الأمم والشعوب ومتطلبات العصر وإيقاعاته!! في قطر أمس حدث التغيير، وأعلن أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني عن تنحيه عن الحكم، وتسليم الراية لابنه سمو الأمير تميم، ووصف الخطوة بأنها تفتح صفحةً يتولّى فيها جيلٌ جديدٌ المسؤولية من أجل التجديد والإبداع!! إذن هي روح التغيير والتجديد التي سرت في العالم من حولنا، فما أحوجنا لها نحن بذات «المعاني» والأماني، وبلادنا لا زالت «محلك سر»، «تقع» و «تقوم» وتتعثر ولا تمشي.. بل هي تمشي للوراء يوماً بعد يوم، وتكاد أن تعود القهقري إلى أيام ما قبل دولة الفونج ،حيث مشيخات وممالك القبائل والعشائر و«الأفخاذ»!!