ما أ شد حاجة الإسلاميين اليوم الى رجل مثل برنارد شو ليردهم الى صوابهم وليبين لهم عظمة السلاح الذي في أيديهم ومضائه.. بل ربما لينبههم إليه ليروه بعد أن كانوا لا يرونه. لقد قرأ برنارد شو الإسلام.. وقرأ سيرة محمد صلى الله عليه وسلم.. واطلع على مراحل حياته، وعلى منهجه في المعاملة والإدارة والحكم.. قال قرأت حياة رسول الإسلام جيداً مرات ومرات فلم أجد فيها إلا الخلق كما ينبغي أن يكون.. وكم ذا تمنيت أن يكون الإسلام سبيل العالم.. ويستمر برنارد شو قائلاً: ولذلك يمكنني أن أؤكد نبوءتي فأقول «إن بوادر العصر الإسلامي الأوربي قريبة لا محالة وإني أعتقد أن رجلاً كمحمد لو تسلم زمام الحكم المطلق في العالم بأجمعه اليوم لتم له النجاح في حكمه ولقاد العالم الى الخير». وقال كلاماً كثيراً وطويلاً وعميقاً في هذا المعنى وهذا المضمون، وبقيت كلمته تلك التي قالها وأطلقها، وظلت راسخة في مخيلات وأذهان الكثيرين من الذين قرأوها أو اطلعوا عليها، قال برنارد شو:(ما أشد حاجة العالم الى رجل كمحمد ليحل له مشاكله وهو يحتسي فنجاناً من القهوة).. إن المدة التي يحتسي فيها الرجل فنجاناً من القهوة ليست بالمدة الطويلة.. ولكنها حتماً أطول من المدة التي يحتاجها الوحي لينزل بالأمر على رسوله صلى الله عليه وسلم.. ولكن برنارد شو اجتهد وأصاب ولم يخطئ.. لعل برنارد شو كان ينحو الى المبالغة نوعاً ما.. ولكنه أصاب كبد الحقيقة، فتلك المدة أو الفترة الزمنية التي تكفي شخصاً لاحتساء فنجان من القهوة كافية لأن ينزل الأمر من السماء.. أو هي كافية لأن يعمل الإنسان فكره ويقلب ما عنده من حلول فيختار أيسرها وأسرعها وأنجعها، وهي كلها موجودة ومركوزة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن برنارد شو عندما قال كلمته تلك كان يعلم تمام العلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن ليحتاج الى عام كامل ليحتسي فنجاناً من القهوة.. وقطعاً هو أيضاً لا يحتاج الى ربع قرن من الزمان- مهما كان حجم فنجانه ذاك- ولو علم برنارد شو كم يستغرق فنجان القهوة هذه الأيام لأصابه الذعر والذهول. إن الذي أهل محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون صاحب هذه الرتبة وهذا المقام حتى في وجدان الآخرين من غير أهل الملة ليس هو فقط نجاحاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. بل الذي أهله هو تفرده وتميزه ونقاؤه وسلوكه الشخصي، وسبقه الآخرين في الالتزام بالمنهج الذي يدعوهم إليه، إلا أن برنارد شو اكتشف حقيقة غابت عن أذهان الكثيرين منا، وغابت عن الحكام والساسة والمصلحين في زماننا.. لقد اكتشف برنارد شو أن نجاحات محمد صلى الله عليه وسلم كانت مرتبطة بشخصه مثلما هي مرتبطة بدينه، واكتشف برنارد شو أن السبب هو أن محمداً صلى الله عليه وسلم ظل ملتزماً عمره كله في تطابق عجيب بين منهجه وشرعه وسلوكه الشخصي. لقد اكتشف برنارد شو أن محمداً صلى الله عليه وسلم ظل عمره كله صادقاً في صدقه.. أميناً في أمانته.. متواضعاً حقاً في تواضعه، عادلاً في عدله، رحيماً في رحمته، إنساناً في إنسانيته.. لقد اكتشف برنارد شو أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يتفلسف ولا يتمنطق ولا يتشدق ولا يجادل ولا يماري.. بل اكتشف أنه لا ينظِّر بتشديد الظاء- بل كان دائماً يتبع القول العمل وأحياناً يأتي العمل سابقاً للقول. لعل برنارد شو اكتشف أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن فقيراً.. بل كان يتعوذ من الفقر.. وكان في أواخر حياته غنياً تجبى إليه أموال الأرض.. ولكنه كان يسأل الله سبحانه وتعالى أن يحييه مسكيناً ويقبضه إليه مسكيناً، ويحشره في زمرة المساكين. كان محمد صلى الله عليه وسلم لا يطيق الغنى ولا يطيق الدراهم.. تأتيه الأموال من أقطار الأرض فلا تبيت عنده وإن دعت الضرورة الى أن تبيت حتى تصبح كان يشترط ألا يظلها سقف ويبيت بعض أصحابه في حراستها حتى تصل باكراً الى مستحقيها. باتت يوماً في بيته بضعة دراهم فلم يغمض له جفن وجعل يتقلب في فراشه ولم يهدأ حتى قام اليها فأخرجها.. عندها وجد النوم سبيلا الى عينه الشريفة. إن مثل هذا لن تستغرق عنده قضية الفقر أو قضية السلاح النووي أو قضية الأقليات أو حتى قضية نظام الحكم في العالم.. لن تستغرق هذه القضايا أكثر من المدة التي يحتسي فيها فنجاناً من القهوة. لقد كان برنارد شو عبقرياً حقاً.. انظروا بالله كيف فرق بين الذي تسهره دراهمه القليلة في البيت.. وبين الذي تسهره استثماراته الهائلة في دبي، وفي الخليج وفي أوربا وفي ماليزيا.. لقد أدرك برنارد شو دون أن يصرح بالفرق الكبير بين منفق وممسك.. بين الجود والشح.. بين السخاء والبخل.. هذا تشغله دراهمه القليلة يخشى أن تزيد.. وهذا تشغله ارصدته واستثماراته الهائلة يخشى أن تنقص أو تضيع.. إن الذي يقضي شهراً كاملاً دعك من سنة ومن ربع قرن، ثم لا يترك أثراً عميقاً في نفس برنارد شو، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين.. وإذا كان هذا من الإسلاميين فجريمته أشد.. وأنا أنصحه وأنصح الإسلاميين في الحكم الآن حتى لا تضيع العبرة ولا العبارة.. أن يكثروا من احتساء فناجين القهوة واقتناء كتب المفكر الفيلسوف الايرلندي الساخر برنارد شو حتى وإن لم يقرأها. يكفي هذا ليذكرهم أن مشاكل الدنيا كلها يمكن أن يحلها رجل واحد وهو يحتسي فنجاناً من القهوة، شريطة أن يكون مثل محمد صلى الله عليه وسلم تؤرقه دراهمه القليلة لا مثل الذي تؤرقه استثماراته الهائلة.