ü كثيراً ما ألجأ للتاريخ وقت الأزمات- كالأزمة الوطنية التي نعيش- فقراءة التاريخ مدعاة للتأمل بأبعد من ردود الفعل الآنية وقت الأحداث والاضطرابات والثورات، فردود الفعل الآنية غالباً ما تكون مجرد «مواقف» أو«إنحيازات» ربما تكون معروفة لدى قراء الكاتب وأصدقائه ومعارفه، لأنها جزء من «تاريخه الشخصي» إذا لم يقع له أو فيه تحول دارماتيكي بين معسكر فكري أو سياسي وآخر. بالإضافة إلى أن في اللجوء إلى التاريخ سعة في الطمأنينة إلى المآلات المنتظرة للأحداث، بما ينطوي عليه من عظات وعبر، عن كيف أن الأمم والشعوب تنتصر في خواتيم ونهايات اللحظة التاريخية للحق الذي أحق أن يتبع، مهما أظلمت الرؤية وأدلهمت الخطوب وتضاءلت الآمال واستيأس الناس من فرج قريب.. وقد كان ذلك نهج رب العزة والجلالة في خطابه لرسوله الأعظم والأرحم في قرآنه الكريم الذي جعل من آيات الأمم وقصص الأولين مادة أولية ومدخلاً ضرورياً لتحليل الواقع، بما يحمل البشريات للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام بأن النصر ينتظرهم في نهاية المطاف، وإن طال السفر.. هذا، غير ما في قراءة التاريخ من سلوى آنية وتسرية للنفوس المكدودة من وطأة المعاناة جراء القلق على مصائر الأوطان. ü الاسبوع الماضي أهداني صديق كتاباً جديداً للأب (جيوفياني فانتيني) الذي يعتبر على نطاق واسع أكبر «سلطة علمية» في تاريخ النوبة المسيحية، والذي كرس جهوده البحثية منذ أواخر الأربعينات وحتى النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي لدراسة تاريخ النوبة وشمال السودان عموماً، مستعيناً في ذلك بالكشوف الأثرية والوثائق الشرقية الخاصة بتاريخ النوبة، بما في ذلك أعمال كتاب ورحالة مسلمين.. فوجدتُ نفسي منهمكاً في قراءة ذلك الكتاب الذي قام على ترجمته ومراجعته أربعة من الأساتذة الأفاضل هم الأب فيلوثاوس فرج، والأب جورج نارانخو، والعقيد محمود عبده، والدكتور أحمد الصادق أحمد.. جهدٌ اشترك فيه اثنان من المسيحيين وآخران مسلمان، وهو تعاون لافت بين منسوبي الديانتين يدلل في حد ذاته على أهمية الكاتب والكتاب في تاريخ السودان القديم. ü في الفصل الثاني عشر من الكتاب، الذي جاء تحت عنوان «بلاد النوبة والفاطميون» وقفت على جملة من الحكايات الطريفة المتعلقة ب«الحاكم بأمر الله»، واسمه أو «اللقب» الذي اتخده لنفسه واشتهر به عبر التاريخ يستحق وقفة، ذلك أنه اعتبر نفسه «حاكماً» بأمر الله أو باسمه أو «ممثلاً حصرياً» له في الأرض، وككل الذين يلبسون أو يتلبسهم مثل هذا الإدعاء على شعوبهم العاديين «غير المعصومين» أو المرسلين، يتحولون إلى سوط عذاب على شعوبهم وما جاورها من الأمم، لأنهم يصبحون ويمسون على قناعة بأن الحق معهم، يحتكرون الحقيقة وحدهم وكل من سواهم على ضلال، فيستحلون بذلك رقبة الآخر المختلف، ويستحيون نساءه، ويخربون دياره بالغزو والحروب لأتفه الأسباب، ويحرفون الكلم لصالح أجندتهم الخاصة، ضاربين عرض الحائط بكل موازين العدل والإحسان والاستقامة. ü جيوفياني فانتيني كتب عن «الحاكم بأمر الله» ما يلي: في عام 996م خلف الحاكم بأمر الله- وهو ذو الأحد عشر عاماً وأمهُ إغريقية مسيحية- أباه ملك مصر العزيز بالله- بن المعز لدين الله الفاطمي- وهو رجل حكيم. وبعد سنوات قليلة من الوصاية، أظهر الحاكم شخصيته الحقيقية، فهو كوحش يجمع بين الضراوة مع الشراسة.. فنحو 1005م أعلن أن كل الكنائس وبما فيها كنيسة القيامة- التي صلى فيها عمر بن الخطاب (الفاروق) عندما فتح بيت المقدس- يجب أن تهدم.. وأعطى المسيحيين خيار اعتناق الإسلام أو مغادرة البلاد.. ومن الغريب أن (الحاكم) واصل دعوة والده للمسيحيين في أن يكونوا عوناً له في الحكومة، حتى كان يقطع رؤوس من يرفضون ذلك التعاون- بعد إكراههم طبعاً على الإسلام خلافاً لتعاليم الإسلام ذاته وآياته المحكمات في هذا الصدد- وقد أمر مرة- تنفيذاً «لأمر الله» الذي اتخذه لقباً وعنواناً لأفعاله الشاذة- أمر بأن يرمي البطريرك القبطي زكريا (1003- 10031) للأسود- في الغابة- وكان راهباً نوبياً يدعى شيشي (أو سوسان) مرافقاً للبطريرك في مغامرته تلك التي عادا بعدها في أمن وسلام.. وفي حوالي عام 1008م أعلن الحاكم أن أي مسيحي بمصر يود الذهاب إلى الإغريق- (أخواله)- أو النوبة أو اثيوبيا لا يجب منعه، وقد كانوا يمنعون في السابق من السفر. فهو مع نفي الآخر وإقصائه أو قتله حتى لو بإلقائه وجبة للوحوش. ü لكن ما يهمنا هنا أكثر هو إطلالته على السودان، التي كان وراءها الصراع الطائفي بين السنة والشيعة، يقول جيوفياني: أكثر الأحداث أهمية في هذا الوقت- وقت الحاكم بأمر الله- كانت مشاركة النوبة بشكل ما في القبض على «ابي ركوة» في مكان ما بالقرب من فرص. و«أبو ركوة» هو الوليد بن هشام، سليل الأمويين من الأندلس، لقب «أبو ركوة» لأنه كان يحمل معه دائماً ركوة- إناء أو قربة صغيرة للماء- في عام 1003م جاء إلى شمال أفريقيا حيث حصل على ولاء القبائل البربرية وبعض العرب.. وفي حوالي 1006م وصل إلى أطراف القاهرة، وجمع الحاكم جيشاً ضخماً بقيادة الفضل بن صالح لملاقاته، وجرت المعركة في الفيوم وهُزم أبو ركوة، فنصحه جنوده باللجوء إلى النوبة طلباً للأمن، لكنه اعتقل هناك، وقصة إعتقاله التي ذكرها عدد من المؤرخين العرب مثل القلانسي، ويحيى الإنطاكي، وابن الأثير، وأبو صالح، كانت تشير إلى الوضع في بلاد النوبة (السودان) بما في ذلك دنقلا. ü فجنود الفضل الذين بحثوا عن أبي ركوة في مصر العليا لم يعثروا عليه وعادوا إلى القاهرة، فأبو ركوة كان قد دخل النوبة مُتخفياً برفقة جمَّالين من البجة، وذهب إلى «صاحب الجبل» وقدم نفسه كمبعوث للحاكم بأمر الله وطلب مقابلة الملك، وأخبره «صاحب الجبل»- مقاطعة في أقصى شمال السودان- بأن الملك شديد المرض وأنه يلزمه تصريح خاص ليذهب إلى دُنقله. وفي ذلك الوقت وصلت معلومات إلى القاهرة مفادها أن أبا ركوة موجود بإبريم، وهنا بعث الحاكم بالرسل والرسائل طالباً إعادة الرجل لمحاكمته. وقد أرسل صاحب الجبل تقريراً إلى ملك دنقلا.. وأمر فضل بن صالح رجلاً اسمه «الحُذَيْل»، أمير العرب وحاكم (السود) السودان، بالقبض على أبي ركوة بكل الوسائل، ووعده بجائزة من المال والماشية إن فعل، وعندما بحث الحُذَيْل جيداً في مقاطعة «مريس» وصل إلى إبريم وأخبر صاحب الجبل بمهمته، وأضاف أن جيشه سيحتل النوبة ويسلبها لو لم يسلمه «المتمرد» أبو ركوة.. ومن دنقلا جاءت الأنباء بموت الملك وبخلافة ابنه على العرش في نوفمبر 1006م.. وقيل إن صاحب الجبل قد أخبر الحُذيل بأنه لم يجتز الحدود سوى اثنين من النصارى لهما جمال من البجة، فقال الحُذيل إنهما من اطلبهما وإذا وجدتهما فاقبض عليهما. وتم القبض على أبي ركوة في دير القديس شنودة على بعد عشرة أيام من جنوباسوان، أي بالقرب من فرص. هناك وجد الحُذيل خادماً برفقة اثنين من الجمال وسأله عن سيده، وفجأة ظهر أبو ركوة وهو متنكر وحاملاً الركوة على رأسه، فحياه الخادم: «السلام عليك يا أمير المؤمنين» وهنا قام الحُذيل باعتقال أبي ركوة واقتاده إلى أسوان، ثم إلى القاهرة حيث اعدم بصورة وحشية في 8 مارس 1007م. ü الطريف في القصة أن آخر الأمراء الأمويين (السنيين) في الأندلس قد تم على يدي غلاة (الشيعة)- الفاطميين- في عهد الحاكم بأمر الله وبابتزازه للدولة (المسيحية) النوبية التي اضطرت لتسليمه لمقصلة الحاكم في القاهرة!