هل يمكن أن يقولها أحد الولاة بعد أن يحاسبه الأخ الرئيس ويحصي عليه ثروته، وضياعه، وأنعامه، وقصوره، وحساباته في البنوك، واستثماراته في الخليج وماليزيا، وغيرها من بلاد العالم، ثم يقاسمه كل ذلك.. فيأخذ نصفاً ويدع له نصفاً ويعلوه بالسوط ثم يعزله!؟ هل يصلي ذلكم الوالي الفجر.. ثم في صلاة الفجر أو بعدها تراه يدعو لرئيس الجمهورية ويستغفر له!؟. لقد فعلها أبو هريرة.. وهل في ولاتنا من هو في قامة أبي هريرة؟. أنا لا أظن ذلك.. ولا أظن أن ذلك ضروري أو ممكن.. إن الضرروي والممكن أن يأتي والٍ يحاول أن يكون مثل أبي هريرة في تجرده وأمانته وحلمه وطاعته! إن هذه المحاولة وحدها تكفي لأن يكون ذلكم الوالي هو أبو هريرة أيامنا هذه؟ وهي كافية لإقامة الحجة على البشرية كلها.. والسؤال المهم: هل إذا حاول الرئيس أن يفعل ذلك مع أحد ولاته أو وزرائه هل سيجد من يستغفر له ويعفو عنه أم أنه سيجد منهم خلاف ذلك.. وأقل ذلك هو السخط على عزله.. مجرد عزله لا مناصفته أمواله ولا لسعه بالسوط ولا شتمه.. ولا توبيخه. مع أن أبا هريرة لم يكن سارقاً ولا مرتشياً ولا مختلساً، ولما أحصيت ثروته كلها لم تزد على عشرة آلاف دينار!!. جاءت كلها من عطاءاته ومن نصيبه في الفئ.. فقد فرض عمر نفقة للمهاجرين والأنصار من الفرع.. وكانت له خيل تناتجت وتكاثرت، لم يكن أبو هريرة جابياً للأموال ماكساً في الأسواق.. بل كان من أوعية العلم التي قل أن يجود الزمان بمثلها.. والآن يتساءل بعض أصحاب الأقلام؟ لماذا يغضب أصحاب المناصب عندما يطلب منهم مغادرة المنصب؟ مع أن مغادرة المنصب وإن كانت مغرماً في جانب إلا أنها مغنم من جانب آخر. هذا ما حدثني به أحد الوزراء الولائيين قبل أكثر من عشر سنوات .. بل لعله أكثر من ذلك بخمس سنوات أخرى.. فلعل مستحقاته بعد مغادرته للوظيفة بلغت حوالي سبعين مليوناً.. إن لم تخنِ الذاكرة .. وهو مبلغ لو تعلمون عظيم في ذلك الزمان أو بلغة بعض الملعلعاتية في ذلك المنعطف الخطير من مسيرة الإنقاذ. إن العزل من المنصب مر المذاق.. وأمر ما يكون في زمن الإنقاذ.. وهو زمن الجبايات والمكوس والتجنيب.. والتجنيب معناه ألا تكون للدولة ولاية على المال العام.. وأن يجي المال العام وينفق دون أن يعرف أمين بيت المال قيمته ولا كيف حصل وفيم انفق؟ أمين المال هو وزير المالية ووزارة الداخلية هي إحدى الوزارات التي يدور حولها كثير من اللغط.. والسبب في ذلك أن جبايات الداخلية لا تخفى على أحد.. بل أن أحد النقباء تجرأ وقدم شكوى للسيد الوزير حول الفساد في الوزارة. وعلق الأخ الوزير- حفظه الله- على هذا السلوك من النقيب بقوله: ولو كان لديه شيء فليثبته بالمحكمة.. وهذه كلمة حق تقال دفاعاً عن الباطل.. والباطل الذي نعنيه هو منهج المحاسبة. إن الذهاب بالقضية إلى المحكمة لا يحدث إلا ممن يملك البينة.. ونود أن نوجه سؤالاً للسيد الوزير: لو أن خالد الصعق الذي رفع مذكرة تشبه مذكرة النقيب وقال فيها: أبلغ أمير المؤمنين رسالة فأنت أمين الله في النهي والأمر وأنت أمين الله فينا ومن يكن أميناً لرب العرش يسلم له صدري فلا تدعن أهل الرساتيق والقرى يسيغون مال الله في الأدم والوفر إذا التاجر الهندي جاء بفارة من المسك راحت في مفارقهم تجري ووجه المذكرة إلى عمر بن الخطاب.. ترى لو أنه قيل له هات البينة على ما قلت وأذهب وأفتح بلاغاً عن شرع القاضي.. هل كان يستطيع إثبات الجرم المشهود على أبي هريرة ورفقائه من الصحابة الولاة والعاملين في دواوين الخلافة العمرية؟!. إن إثبات الجرم بالأدلة لا يحدث إلا مع اللصوص والسارقين، وكم من لص وسارق أفلت من العقوبة لعدم كفاية الأدلة.. إن الأمناء والخلصاء ياسعادة الوزير لا يحالون إلى النيابات والحراسات والمحاكم.. هذا منهج الدولة العصرية التي لا تؤمن إلا بالعدالة الشكلية والإجرائية.. أما العدالة الحقيقية فهي التي تقدم منهجاً يكون تحصين وحماية للموظف من الفساد والإفساد.. منهج الرقابة والمحاسبة والأخذ بالعزائم.. منهج الأسوة والقدوة فلو لم يكن الرقيب والمحاسب في تلك الدولة عمر بن الخطاب لما انصاع أبو هريرة ولا سعد بن أبي وقاص ولا عياض بن غنم لمصادرة الأموال وجلد الظهر وشتم العرض.. ولكانوا قالوا لأمير المؤمنين: خذنا إلى شرع القاضي وليقم علينا الحد!!. والأخ الوزير يقول إنه لا يجب أن تذهب رسوم الخدمة للمالية وسببه في ذلك صعوبة استخراج احتياجات وزارة الداخلية مثلاً من المالية.. وهي الاحتياجات التي تقدمها الوزارة للمواطنين دافعي هذه الرسوم. عن أي دولة يتكلم الأخ الوزير؟.. عن دولة عصرية أم دولة من العصر الحجري؟. إن مثل الذي يشير اليه الأخ الوزير هو ما يتوقع من دولة ليس لها خطط وليس لها برامج.. وليس لها قدرة على الإشراف والمراقبة.. وهي دولة لها هياكل كسيحة غير قادرة على الحركة ولا على التجاوب ولا على التناغم.. وهي دولة يؤدي فيها الموظفون أعمالهم في استرخاء وحسب المزاج، وإلا بالله ما هو الإشكال في أن تقدم وزارة الداخلية احتياجاتها من أول العام إلى وزارة المالية، وهي صاحبة الولاية على المال العام.. ويصدق المبلغ حسب الجدول وحسب الكميات في مدة لا تتجاوز الساعات أو الأيام أو الأسابيع؟!.. ولكن ياسعادة الوزير دعنا من رسوم الخدمات.. كيف تنظرون إلى جباية رسوم مخالفات المرور؟.. هذه ليست خدمة تقدم للمواطن.. هذه عقوبة إيجازية يكون فيها الخصم هو الحكم.. وليس بمستبعد أن يكون الحكم منها مجانباً للصواب وللعدالة.. ولكن الإشكالية أن القرار إيجازي وأن العلاقة بين المواطن والشرطي هي علاقة إذعان، وكان الواجب أن يكون هناك طرف ثالث يقف بينهما..وعلى هامش هذا الموضوع قرأت في الحوار الذي نشرته الانتباهة أن الوزير يقر أن ليس هناك حصر دقيق للأجانب في السودان، وهي عبارة دبلوماسية ومطاطة ويمكن أن تعني أياً من طرفي الإفراط أو التفريط.. والحقيقة التي لا مراد فيها أن الوجود الأجنبي في كل دولة لا تحكمه الإجراءات والرقابة والقوانين، ولا تحد منه ولا توقفه.. بل أن هيبة الدولة هي الوازع الأكبر والأهم في حجم الوجود الأجنبي.