الله.. ياحبيبتي الخرطوم.. ماكنت يوماً عشيقتي وإنما كنت دوماً حبيبتي التي أهيم بتفاصيلها وشوارعها المضاءة بزيت قلبي، وتذكاراتي القديمة معها في شوارعها شارعاً.. شارعاً.. شارع القصر.. شارع الجمهورية.. شارع الحرية، الذي شهدت ضفته الشرقية بداية رحلة سفائني التي أبحرت ثم اشتجرت.. ثم غابت.. ثم عادت الى مياهي الاقليمية، وأبحرنا سوياً الى عوالم الكائنات فيها ولا مطر.. ولا هموم فيها ولا بشر، ورغم ذلك وكل ذلك الحب الكبير غدرت بي حبيبتي الخرطوم، وطعنتني من الخلف بخنجر مسنون على رحى المهانة والخيانة، دون نذير أو بشير ينبهني بالخطر الداهم.. ورغم ذاك وكل ذاك نهضت من بين ضفتي مجرى جراحي، وعشت حياتي مع حبيبتي الخرطوم التي ماعادت حبيبتي، ومراوحات من الذهاب والإياب، تهز كياني وتحرق عصبي، وخصومات تمتد بيننا أياماً وأسابيع وشهوراً، كانت عجلات عرباتها تسحق عصبي، وتحرق دمي، وتزيد كل يوم همي علي همي، وأصبحت حياتي مع حبيبتي الخرطوم التي ماعادت حبيبتي مستحيلة.. مستحيلة وليست جميلة، وليس هذا فحسب، وإنما أصبحت الخرطوم مدينة طاردة.. مدينة تأكل بنيها، بل وأكثر من ذلك أصبحت الخرطوم مدينة متسلطة، الكل عندها قطيع من البشر، وماعادت تهتم بالخصوصية القديمة، التي كانت تعمر محرابها.. أرصفة الخرطوم ماعادت تلك الأرصفة فقد علاها التراب والرماد والخراب، وضجيج مكبرات الصوت الصغيرة، التي تبث نهيقها الصفيق الذي يخرج من حناجر الباعة المتجولين، وهم ينادون على بضاعتهم التي لا نفع منها، فهي تتعدد فيها الأشكال والألوان، وفي النهاية ليست هي إلا واردة من تايوان التي كادت تقلد حتى الهواء الذي يتنفسه المارة بصعوبة وسط الزحام.. هذه هي حبيبتي الخرطوم التي ماعادت حبيبتي.. الأرصفة ماعادت هي نفس الأرصفة.. الأمكنة ماعادت هي تلك الأمكنة.. تلك الأمكنة التي كنا نقف فيها، و(الحكي والونس) كان ينمو بيننا قبل الوداع، حيث يتجه كل منا الى مكان المواصلات التي تحمله الى الأحياء، وحتي يصل المرء الى موقف المواصلات يكون قد هدت كتفه عشرات الصدمات.. ميدان جاكسون الذي كان صرة مواصلات الخرطوم الى جانب الأستاد وعلى حين غرة، ظهر موقف (كركر) الذي أصبح ملهماً خصيباً لكافة المخرجين، وكُتَّاب السيناريو الذين برعوا في انتاج العديد من أفلام الكرتون، واختلط الحابل بالنابل، والناس والعربات والحافلات، وبطل الكرتون السودانوي الشهير(ميكي هايس)- اي عربات الهايس- التي يحلو لزميلنا ابراهيم الغبشاوي أن يطلق عليها (الهايص) في زاويته الخفيفة الظل (زوايا بعيدة).. وأقول للعزيز (ابو خليل) إن زوايا الهيصة و(الورجغة) التي كتب عنها المبدع الراحل (علي المك) أصبحت ليست بعيدة، وإنما أصبحت قريبة بل قريبة جداً حتى أن حوادث (الهايص) أصبحت لا تثير انتباه رجال شرطة المرور أمام حوادث البصات السفرية الضخمة، التي اعتادت الانطلاق من الميناء البري.. ثغر حبيبتي الخرطوم التي ماعادت حبيبتي، هذا الثغر الذي أصبح لا يرتكب معصية الابتسام في وجه الركاب، لأنه لم يعد متاكداً من أن هؤلاء الركاب سيصلون بعد نهاية الرحلة الى بيوتهم أحياءً أو أموات، إنه زمن الموت الجماعي الذي حل محل (الزواج الجماعي)، ولعل شهداء الموت الجماعي الذي تسببه البصات السفرية الضخمة، سيكونون في حواصل طير خضر أحياء عند ربهم- (وربنا يتمم على خير)- وهم يزفون الى بنات الحور في الجنات العلا التي عرضها السموات والأرض.. أما شهداء الحب مثلي الذين أحبوا الخرطوم، ولكن الخرطوم كانت عصية عليَّ وعلى أحبائي، وبما أنني أسلفت القول بأن الحياة مع حبيبتي الخرطوم التي ماعادت الخرطوم أصبحت مستحيلة وليست جميلة، كان لا بديل لي إلا الفراق الابدي، والفطام من السير في أزقة ذاك (السوق العربي)، الذي لم يتغير الحال فيه في مسألة الزحام.. موقف (جبرة) القديم لم يغب عنه الزحام ولو لساعة واحدة، حتي في المساء، ويا لذلك المساء الذي أجبرتني فيه على عدم مصاحبتي لها، فكان الفراق والشك والعذاب والدموع، أذكر جيداً ذاك المساء الرمادي الحزين وكيف تداعت الأشياء.. كل الأشياء تقريباً.. سكت الرباب.. سكت الكلام.. بين شفتي المساء.. سكت الغناء في صدر ذاك الترابادور العاشق، الذي ظل خمس سنوات يغني تحت شرفة حبيبتي.. أنا أيضاً ظللت خمس سنوات اعتصر عصبي وحبي وأقدمه لحبيبتي الخرطوم، التي ماعادت حبيبتي.. في ذاك المساء الرمادي الحزين كان القدر قد ازال الستار على أعظم قصة حب بين إنسان ومدينة، فحب المدائن ياسادتي يفوق كل حب، وما كان لهفي على الخرطوم عشقاً، وإنما كان حباًُ أحببتها.. أحببت كل تفاصيلها، أحببت شوارعها وأرصفتها وأضلعها، التي كانت تعانق اضلعي عمائرها الشاهقة، كانت تنمو فوق جلدي وتعلو وتتسامق وتتشاهق في كبدي.. برج الفاتح.. برج الذهب.. برج البركة.. أيضاً.. أيضاً برج العذراء برج حبيبتي الخرطوم التي أحببتها وهي عذراء وماخدشت يوماً حياءها.. كنت أضمها الى صدري وذاك الهودج المجنون ينغرس في لحمي ويستفز مشاعري، ولايحرك قطعان بهائمي لأنها كانت حبيبتي، وما كانت يوماً عشيقتي، وإنما كانت دوماً حبيبتي.. حبيبتي التي كنت أجلس أمامها الساعات الطوال، وأنا أبكي لأنني لم أستطع أن أفعل لها شيئاً سوى الحب بكيت وبكيت.. حتي كرهت الأدمع وهي شاردة عني.. بعيدة عني إلا إذا كانت تطلب مني شيئاً، وعندها تتداعى حبيبتي الخرطوم، وتبحث عني وتجدني حيث اعتادت أن تجدني، وفي المساء نذهب معاً وكأن شيئاً لم يكن، وفي صباح اليوم التالي تشرق شمس جديدة على الخرطوم ونلتقي من جديد.. أجلس على مكتبي واحتسي قهوتي وأنا أقلب صحف الصباح التي تصدرها الخرطوم كل الصحف تقريباً تتجهم في وجوه الناس دون ما أسباب مرة تبكي ومرة تضحك، ومرة تتدلل شوية، وهي تحكم مشجب تنورتها الجينز الضيقة التي تشف عن تضاريسها.. إنها الخرطوم.. (الفين وعشرة)، التي تبدو كامرأة اربعينية مكتنزة، ولكن قامتها الفارعة تخبئ التفاصيل التي يمكن أن تثير الإمتعاض، وبالقطع فان الخرطوم (الفين وعشرة) ليست الخرطوم ماقبل العشرة التي التصقت بعام الفين، لقد كانت الخرطوم في ذاك الزمن الجميل زهرة المدائن، كان الناس في الخرطوم يأكلون ثلاث وجبات كاملة الدسم في اليوم، وكان الناس يذهبون الى الحدائق العامة، ويفترشون الأرض ويغنون ويأكلون ساندوشات (الجانك فوت) يعني البيرقر والشاورما والسمك المقلي، وأحياناً أحياناً ساندوتشات الفول والفلافل.. أما الخرطوم (الفين وعشرة) فإنها تأكل ساندوتشات الحزن والحسرة إذا وجدت لأنها في الأصل لا تجد ماتأكله وتعيش جائعة وضامرة كفئران (المسيد). الله.. ياحبيبتي الخرطوم يامن ما عدت حبيبتي.. لقد ضاع الأمس مني وسكت العندليب الذي كان يغنينا ويشجينا، ومقعدي يلاصق مقعدك ونحن نجلس تحت ظلال الزيزفون، والطل والندي يتنفس حولنا، ورغم ذاك وكل ذاك ضاع الأمس مني. الله.. ياحبيبتي الخرطوم.. يامن ماعدت حبيبتي لازلت اذكر ذاك المساء الرمادي الحزين الذي اسدل القدر فيه الستار على أعظم قصة حب بين إنسان ومدينة، فالوداع ياجبال الهموم.. الوداع ياحبيبتي الخرطوم يامن ماعدت حبيبتي.