هل أنت إسلامي.. أم مجرد واحد مستهبل؟ قبل أن نرد على هذا السؤال.. وقبل أن نقع في شبر من الماء، كما يقول إخوتنا المصريون.. دعني أعينك بعض الشيء. لعلك عجبت من استخدام كلمة «مستهبل» في مقال يراد له أن يكون غاية في الرصانة.. كيف لا وهو يتحدث عن «أصل المسألة» لا شك أنه يجب أن يكون في غاية الرصانة.. ولكن القاعدة العامة تقول إن كل مفردة عامية في لهجة أهل السودان لها أصول في العربية الفصحى التي تكلم بها أسلافنا منذ عهد الجاهلية وإلى يومنا هذا. إن العرب يستخدمون الألف والسين والتاء للطلب، مثل قولك استفهم أي طلب الفهم، واستعلم أي طلب العلم واستكشف أي طلب الكشف، والهَبَل بالفتح هو الثكل وتقول العرب لأمه الهبل وهبلته أمه أي ثكلته بضم الثاء المثلثة.. ومن أصل هبل قولهم اهتبل الفرصة أي انتهزها واغتنمها. وبهذا المعنى يكون قولنا فلان مستهبل أو استهبل أي أنه يغتنم الفرص وينتهزها ويشتهر بذلك.. كما أنه يبدي خلاف ما يبطن.. ويخَادع.. ويدعي ما ليس فيه. وحتى نميز بين الإسلامي والمستهبل علينا أن نضع ميزاناً كالميزان الصرفي نعرف به الإسلامي.. بل ويعرف به الإسلامي نفسه.. لأن حيلة المرء ربما انطلت عليه هو ذاته قبل أن تنطلي على الآخرين.. أو بعد أن تنطلي عليهم.. فلا بد أن بعض المستهبلين يظنون أنهم إسلاميون من كثرة ما انطلت حيلهم على الآخرين.. ومن كثرة الفرص التي اهتبلوها وأول قاعدة في الميزان الصرفي هو التفريق بين مصطلح المسلم والإسلامي. فالمسلم في الميزان هو من شهد ألاّ إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج البيت الحرام.. ثم بعد ذلك لا نكفره بذنب.. ولا نخرجه من الإسلام بعمل. وأما الإسلامي في الميزان فهو المسلم الكاتب أو الخطيب الذي ينسب منهجه الفكري إلى الإسلام ويشتهر بذلك حتى يكون داعية أي أن الإسلامي هو الداعية المسلم.. هذه هي القاعدة الأم والقاعدة الأولى في الميزان الصرفي للمسلم.. والقاعدة الثانية أنه يجب ألا تهتز نسبته إلى الإسلام بأي حال من الأحوال، وألا يقع في المشتبهات وأن يقوم فكره على الأصول المستقرة والتي عليها الإجماع.. بمعنى آخر ألا يتبع الرخص ولا يلتزم الشدائد.. ونبدأ بالرخص.. وأشنع الرخص ما كان فيه مساس بالعقائد.. وسميناه رخصاً مجازاً فهو أصلاً ليس من أعمال الجوارح وإنما هو من أعمال القلوب، وأما أعمال الجوارح فهي الأقوال والأفعال. إذن فالإسلامي أي الداعية المسلم يعرف من أعماله أي من أقواله وأفعاله.. إن أخطر ما يعيب الإسلامي، بل ويصيبه في مقتل هو اتباع المعاصرة في الفكر السياسي وفي الحياة الاجتماعية.. وفي الشأن الاقتصادي، أما في الفكر السياسي.. فإذا كنت تجيز القول بأن المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات.. فأنت لست إسلامياً بل أنت شخص مستهبل.. والدليل على الاستهبال تغليف العلمانية في ثوب مزركش من اللغة الفضفاضة.. فالمواطنة كلمة فضفاضة المقصود منها في واقع الأمر إجازة أن يخضع المسلمون لحكم غير المسلم.. وشيخ المستهبلين في هذا الصدد هو الترابي الذي صاغ المصطلح في دستور 98.. وحواريوه كل من قال بقوله ممن هم في الشعبي والوطني من أمثال حسن وأمين وسيد.. ولا داعي للتشهير.. وكذلك إذا كنت ممن يلهج بالثناء على الديمقراطية «Democracy» ويجعلها بديلاً للشورى أو يظن أنها بديل للشورى أو صنو لها ويدعو للديمقراطية.. فأنت لست إسلامياً بل أنت مستهبل وانتهازي، وانتهزت حالة الارتباك السياسي والفكري الذي تعيشه الأمة ومحاولة المخادعة من قبل الغرب لتمرير باطله حتى أصبح إتباع الغرب مما يتزين به جهلاؤنا وأهل الباطل وضعاف النفوس وأتباع الأهواء. وهؤلاء المستهبلون الذين يدعون أنهم إسلاميون يعلمون تمام العلم أن الديمقراطية ليست مجرد وسيلة لاختيار ممثلي الشعب ولا وسيلة لإبداء الرأي، ولكنها منهج حكم متكامل يعطي الشعب حق التشريع.. ووجه الاستهبال أنهم يريدون أن نصدق أن نظام الحكم يمكن أن يكون إسلامياً وديمقراطياً.. وعلم اللغة يؤكد الاختلاف الجذري بين الشورى والديمقراطية.. وفي مجال السياسة إذا كنت ممن يقول بعدم جواز الخروج عن طاعة ولي الأمر وإشهار السيف عليه ثم تقف في هذه الغاية ولا تتحول منها قط.. فأنت لست إسلامياً بل أنت إنسان مستهبل.. لأن عدم جواز إشهار السيف في وجه الحاكم لا يتعارض مع تقديم النصح له.. والتشديد في النصح إذا دعت الضرورة.. وقد تدعو الضرورة لأن تكون أنت سيد الشهداء، وذلك عند مواجهة الحاكم الظالم والإنكار عليه. ووجه الاستهبال هنا أنك تريد أن تحتمي بالأصل الشرعي في عدم جواز الخروج على الحاكم لإبطال القاعدة الشرعية التي تحتم النصح له. أما فيما يتعلق بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والإعلامية التي تتعلق بالأحكام الشرعية في المعاملات التجارية.. وفي العلاقات الإنسانية والأسرية والشخصية.. فنقول أنك ربما تكون أحد أئمة المستهبلين، فمثلاً إذا كنت تدعو إلى مساواة المرأة بالرجل على إطلاقها وتدعو إلى تحريم الختان بجميع أنواعه وتستحل الربا عند الحاجة أو عند الضرورة تلقي القول هكذا على عواهنه.. وإذا كنت تبيح الغناء كل الغناء.. والموسيقى كل الموسيقى اعتماداً على أقوال القرضاوي أو ابن حزم أو الغزالي.. وهناك أبواب لم يتسع المجال لذكرها.. كلها تدخل أصحابها من الإسلاميين في زمرة المستهبلين. أما في جانب الشدائد فإن التكفيري شخص مستهبل أيضاً، إلا أن استهباله على نفسه، فهو يخدعها قبل أن يخدع الآخرين فهو ينتهز نصاً أو نصين يحملهما فوق ما يحتملان ثم يستخرج منهما قاعدة التكفير أو قاعدة الإرهاب أو التفجير الانتحاري.. إذن المتشدد مستهبل.. والمترخص مستهبل وليس واحد منهما إسلامياً.. والساكت عن الحق شيطان أخرس وهذه ثالثة الأثافي.