شهدت جلسات لمجلس التعايش الديني وكان موضوعه الحوار الإسلامي المسيحي لدعم وحدة السودان. وكان الجو العام السائد هو الإيقاع الديني بعيداً عن إيقاع السياسة واستقطاباتها الحادة. ولقد شهد الاجتماع حضوراً مكثفاً لرجال الدين المسيحي وعلماء الإسلام.. وجرى نقاش هاديء ثر عكس طبيعة أهل السودان، وحرك فيَّ مشاعر شتى وخواطر مختلفة. هذا السودان بلد واسع عريض.. عريق في تاريخه.. فلقد شهد هذا النيل مولد معظم الحضارات البشرية، وعلى ضفافه عاش الملايين من أصناف شتى وقبائل وسلالات.. حضارات بدأت قبل الميلاد.. سادت وبادت، وكان يُعرف ببلاد السود أو بلاد السودان كما أطلق عليه العلامة بن خلدون في مقدمته. وقامت دويلات كثيرة.. ولقد شهد دخول العرب اليه.. جاءوه يحملون الإسلام من بوابات شتى واعتنق السكان الإسلام في رفق. جاء المسلمون.. ولم يستصحبوا معهم زوجاتهم فتصاهروا وتزاوجوا مع العناصر الأفريقية الغالبة في السودان. وطريقة دخول الإسلام السودان كانت من أكبر العوامل التي شكلت العقلية السودانية وتركت بصماتها.. فالإسلام لم يدخل السودان عن طريق حرب وعنف.. ومعارك فيها غالب ومغلوب، وإنما دخل عن طريق الصلح «البقط» مع المملكة النوبية الحاكمة يومئذ. وطريقة الصلح هذه تركت بصماتها على الطرفين القادم والمقيم، وخرجت بالمجتمع من دائرة الاستقطاب الحاد الى طريقة التدرج. وهؤلاء القادمون الجدد.. تأقلموا مع البيئة الجديدة وقدموا بضاعتهم الإسلام، في صورة جاذبة لهذه البيئة.. فقدموا إسلامهم عن طريق «الكِسْره» و«الإنكسار» والكسره- هي إطعام الطعام، والإنكسار ليس الإنكسار السياسي، وإنما هو التواضع وفن المعاملة. ثم استصحبوا الفنون السائدة.. من الرقص والإيقاع.. وقدموا من خلال فكرهم، ثم تدرجوا الى مصاف العلم والطرح الأكاديمي، وكان لهذه الطريقة السودانية البحتة أثرها في انتشار الإسلام في هدوء وسكينة. فطريقة الدخول هذه كانت من ضمن العوامل التي أفرزت فن المعايشة والمساكنة مع العقائد والديانات الأخرى. ومن يومئذ شهدنا سوداناً يتسع للجميع.. بكافة دياناتهم ومللهم ونحلهم حتى نستطيع أن نقول إن هناك نموذجاً في فن التعايش نطرحه أمام التجارب القاسية للشعوب من حولنا في البلقان، وفي أمريكا مع الهنود الحمر، ونماذج مؤلمة في عالمنا العربي الإسلامي، واستطيع أن أزعم بأن التشكيلة السودانية الجديدة تشكيلة متفردة، وأن مكوناتها لا تشبه المكونات المماثلة في البلاد الأخرى. فالعرب في السودان بعد هذا التمازج لا يشبهون بقية العرب الأفارقة في القارة، فهم لهم طعمهم «السوداني» الخاص، وعلى صعيد الديانات كذلك. فالمسيحيون لا يشبهون بقية النصارى في البلاد العربية والأوروبية، فقد أجادوا فن المساكن والمعاملة مع أخوانهم السودانيين في أغلب مدن السودان: أم درمان، الأبيض، الدبة وكريمة. وكذلك اليهود.. فقد عاشوا في السودان، وهناك أسر تنحدر من أصول يهودية تصاهرت واندمجت مع مناخ السودان. وهذا التميز والطبيعة السودانية امتدت الى عالم السياسة، فهناك أحزاب سودانية كثيرة.. مثل كتلة اليسار، وكتلة الإسلاميين والأحزاب الأخرى، ولم تشهد الساحة السودانية عراكاً دامياً إلا في القليل النادر الشاذ. أخلص من كل ذلك أن السودانيين قادرون وهم مقبلون على مرحلة الاستفتاء، أن يتجاوزوها بكثير من السلام والتعايش مع النتائج التي يسفر عنها الاستفتاء، وأن لا أخفي انحيازي لخيار الوحدة.. لأن التوحد في كيانات أكبر، هو سمة هذا العصر والعالم يحترمك إن كنت تنتمي الى كيان كبير. فخير للأخ الجنوبي أن يكون مواطناً في وطن رحب كبير، بدلاً من أن يغلق نفسه في مساحة جغرافية محدودة. وكذلك بالنسبة للمواطن الشمالي، خير له أن يتمدد في إطار أوسع، فالعالم كله مقبل على التكتلات العريضة ولا يأبه للأجسام الصغيرة، وما دام تجاربنا تدل على تفردنا بفن التعايش والتساكن والتسالم، فلا أقل أن نضرب نموذجاً فريداً لتكوين سودان موحد. ونقنع الآخرين بأن فن التعايش هو اختراع سوداني محض.