رأي : د. عبد الرحيم عبد الحليم محمد : منذ سنتين يا سادتي، ظل البريد يتحفني بخطابات أحسبها زاهية جميلة تحمل في مظاريفها زهورا ملونة أرادت أن تهمس في أذني بصوت شجي حلو وربما معطر إذا تخيلنا أن هنالك أصوات معطرة ، صوت يهمس في أذني: سنة حلوة يا أبو سامر سنة حلوة يا جميل. لم لا ومن شعراء السودان من عطَّر أصوات الحبيبة؟ ألم يقل شاعرنا «يا صوتها لما سرى ... عبر الأثير معطرا»؟. وعندما أتخيل وقعاً شاعرياً متوهماً لخطابات البريد الأمريكي تلك، أحس بزهو شبابي غامر وأبرم أشنابي وكأنني لا زلت طالباً جامعيا أو طنباراً في جمعية التمثيل والموسيقى بمدرسة كورتي الثانوية. أبرم أشنابي الشبابية ناظراً إلى وجهي الصارم القسمات كوجه الشعب السوداني قبل عقود خلت«قطعاً ليس الآن» متخيلاً أن القدر أتى بي إلى هذا المكان البعيد في القارة الأمريكية لاستعادة عرش آبائي وأجدادي منذ ملاحم الملكة الكنداكة في دحر الجيوش الأجنبية ثم موقعة أم بقر التاريخية مبشرا كعريس فارس ومجللاً بأغنيات مهيرة وفخوراً بصليل الرياح الجميلة التي لمعت كبارق ثغرها المتبسم. مع بزوغ فجر هذا العام واصل البريد تعديه السافر على أمني النفسي بخطابات جاءت لا هامسة في أذني بسنة حلوة يا جميل أو يا جميل يا مدلل بصوت المرحوم عوض الجاك... ذلك الرائع ، وإنما جاءت الخطابات تحمل نذر عالم حسبته لا يزول وهو العمر تذكرني بقرب التقاعد مركزة على ضرورة التأمين على الحياة . ولكن ما جدوى للتأمين على الحياة بعد أن تكون وإن طالت سلامتك يوماً على آلة حدباء محمول؟؟. إن هذه الخطابات مقطوعة الطاري ما فتأت تذكرني بأنه سيأتي إن لم يكن أتى بالفعل يوماً تزدريني فيه شركات التأمين الطبي وكأنني لم أكن في يوم من الأيام عبدالرحيم ود شيخنا عبدالحليم المعروف بين أخوته ببلاع الأسود. حتي أخي السفير الذي دوخ اوكامبو لم يستطع منازعتي في هذا اللقب فما بال هذه الشركات العجيبة تناوشني بهذه الخطابات منذ بداية العام؟ ربما أرادت أن تقول لي: أسمع يا ود شيخنا... الحساب ولد والأعمار متوسطات مهما بالغت في التغني برفع شعار تقاعد التقاعد كفلسفة من فلسفات الموارد البشرية في عالم يعاني مجاعة مريعة في الكفاءات البشرية المؤهلة. مع إنسياب العام بهدوء مر عيد ميلادي الموازي لرحيل شيخنا العجيمي الكبير . ومع تسلحي بالتلاوة وقراءة«كامل الأنوار» ، توالت عليَّ كوابيس مزعجة من النوع الذي تخاف منه ذاكرتنا الأسطورية. في هذه الأحلام مثلاً ، أن يبلغني شخص برحيل أعزاء أعلم سلفاً أنهم رحلوا، أو إنهيار حوائط قوية أمامي أو رؤية نفسي« أتدردق» كجلمود صخر حطه السيل من عل من قمة عالية إلى بعد سحيق أو أذبح شاة أو أقف على توزيع اللحم ولابن سيرين تفسيرات مرعبة في هذا الخصوص. وقد رأيت فيما يرى النائم أمس، أنني ذهبت إلى حوشنا التحت مع أخي الدكتور مأمون . في الحوش، حاولت تسلق نخلة نسميها «الكريقة» ، فوجدت أن جثتي الضخمة تحول بيني وبين تسلق النخل لجني الرطب ، فأنقطع سيل أحلامي على صوت المرحوم أحمد عمر الرباطابي: الشتيلة الفوق جدولا جيت أمد أيدي اتناولا الحراريس قالوا لا أستيقظ من تلك الأحلام التي نقلتني عبر مركز مروي شمالاً، ثم إلى السجانة والديوم والصحافة غير عابئة بالمسافات ، ثم تعيدني إلى البلد عابراً النهر إلى كورتي وجواري أو ممتطياً الجلاء وكربكان وعطار د، أو متتبعاً حفلات النعام آدم واليمني واسحق كرم الله مشاركاً في حمحمات الصفاقين و«خارشاً» طنبوراً حنيناً مع أولاد الركابية والنافعاب. وسرعان ما تأخذني دراما الأحلام الى جدة ... سوق الندي وباب شريف ، بل وعلى متن الرحلة 452 من جدة إلى الخرطوم ... ايرباص سعودي يقوده كابتن صلاح شبكة أو صلاح زمراوي. تعود بي الأحلام إلى الواقع ، فأراني مجهداً أشق طريقي عبر كتل الثلج في ولاية نيوهامبشير . أركض يقلب محزون في طرقات هذه القارة الفسيحة من جبال الروكي إلى الغرب الأمريكي . أمارس سيل أمنياتي العصية للعودة إلى وطن أرى فيه النيل يمر أمام بابي كل يوم أغتسل منه خمس مرات فلا يبقي ذلك من درني شيئاً. هناك أحضر أمسيات الحقيبة وأحاضر عنها...، أسفر عن حب لقريتي وأسافر إليها، أحدث نفسي بقرب من الشلوخ الجميلة للحاجة فاطمة الطيب وأحادثها. ومع تعثر أمنياتي الإلتئامية بالوطن، قررت أن أكون مذعناً للريح في جمجمة البحر الرهيبة على حد تعبير محمد عبدالحي . لقد قررت إن أصادق هذا العام بشرط أن يتوقف البريد عن استفزازي!