ü قليلٌ أولئك المختصون في علوم المكتبات وإدارتها من يشتغلون بالبحث والكتابة خارج إطار تخصصهم، فطبيعة مهنتهم تستنزف طاقتهم في تصنيف الكتب والبحوث وعناوينها وترتيبها بحيث تكون بين يدي طالبيها بأيسر الطرق و في أقصر الأوقات، ومن الطبيعي أن يصرفهم هذا عن القراءة المتبحرة والمنتجة للكتابة والكتب والبحوث، ومن بين هؤلاء الرجال القليل كان صاحب «دار حمر.. دروب وظلال على الرمال»، د. الحاج سالم مصطفى الذي تقول سيرته العلمية المختصرة- بالإضافة إلى أنه من أهالي «صقع الجمل» مركز النهود حاضرة الحمر- وبعد تلقي تعليمه حتى الجامعي في السودان ابتعث إلى المملكة المتحدة حيث نال درجتي الماجستير والدكتوراة في علوم المكتبات والمعلومات وعاد إلى السودان ليعمل بالتدريس في جامعاته قبل أن يهاجر إلى سلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة. ü كتابه عن «دار حمر» كان عبارة عن مقالات متناثرة كتبها عن (الدار) ومجتمعها وطبيعتها في أوقات متفاوتة على المواقع الإسفيرية وافتقد جلها قبل أن يساعده بعض اصدقائه في الحصول عليها، لذلك توجه إليهم بالشكر والامتنان في المقدمة، لكنه لم يكتف بجمعها وطباعتها بل حفر حولها وأعاد كتابة نصوصها ودعمها بالبحث وإعادة الترتيب حتى تصبح كتاباً قيماً كالذي بين أيدينا. ü فوجئت بأن الفصل الأول في الكتاب، قد خصصه الكاتب لتقديم خدمة للقاريء حول «مصادر تاريخ الحمر» ورصد، انطلاقاً من تخصصه كخبير في علوم المكتبات، مظان البحث في ذلك التاريخ، سواء في المخطوطات القديمة أو الكتب والمذكرات التي سطرها بعض الاداريين البريطانيين، أو من تناولوا تاريخ «الدار» وأحداثها المهمة من الكتاب المعاصرين، بالإضافة إلى كتب الرحالة وكتب الطبقات والشخصيات والمعاجم اللغوية، والمقالات والدوريات العلمية كتلك الخاصة بقسم التاريخ في جامعة الخرطوم«Sudan Notes & Records»، بالإضافة إلى محفوظات دار الوثائق القومية السودانية. ü لكن د. الحاج سالم وهو يقدم ذلك الرصد وتلك الخدمة أشار إلى حقيقة مهمة استوقفتني، بل صدمتني، باعتبارها بعض الإخفاقات والفجوات الكبيرة في جهدنا العلمي، وما كنت أظن أن الإهمال بلغ بنا ذلك المبلغ، إذ قال وسجل أن «غياب الدراسات الببلوجرافية في السودان وعدم وجود سجل مُعتمد للرسائل الجامعية التي قُدمّت للحصول على دراسات الماجستير والدكتوراة داخل وخارج السودان» لم يمكنه إلا من حصر القليل (جداً) من هذه الرسائل على سبيل المثال.. ولا أدري ما هو دور وزارة مختصة كوزارة «التعليم العالي» إذا لم يكن من مهامها توفير مثل هذه الثبتْ والسجل للبحوث فوق الجامعية عبر التنسيق بين الجامعات المختلفة، وجعل مثل هذا السجل في متناول الباحثين! ü يقع الكتاب في 252 صفحة من القطع المتوسط، ونحو 50 مقالاً بين المقدمة والختام، وأعلن الدكتور الحاج سالم تخصيص ريع الكتاب (بالكامل) لدعم جمعية الإحسان الخيرية بمدينة صقع الجمل محلية ود بنده- مسقط رأسه- بولاية شمال كردفان. وعليه قد يصيبنا «بعض الأجر»- بإذن الله- من تقديم الكتاب والترويج له، مثلما يصيب أصدقاءنا في مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي من نشر الكتاب واحسان اخراجه على هذا النحو البديع، حتى لو تقاضوا أجورهم الدنيوية العاجلة لقاء إعداده وطباعته. ü حول «أصل الأحمر» يورد الكاتب «اسطورة» طريفة يتداولها الحمر في ما بينهم، وهي عنده دليل على حيرتهم في معرفة أصلهم، القصة الاسطورة التي عنوانها «جريوات التبلدي»، والجريوات هي جمع «جرو» وهو صغير الكلب يستخدمه أهلنا في غرب السودان دونما حرج أو تحقير لوصف كل صغير بغض النظر عن أصله وفصله. تزعم الأسطورة: أن جد حمر كان قد خُلق في الأصل كتبلدية (حمراية) في الزمن القديم قبل أن يتحول إلى انسان! وفي ذات يوم هبت رياح عاصفة أدت إلى سقوط إحدى ثمار (جريوات) هذه التبلدية على الأرض حيث انقسمت إلى ثلاثة أجزاء: طار الأول ومنه جاء فرع (الطرادات)، واندق الثاني على الأرض وصار دقيقاً ومنه جاء (الدُقاقيم)، أما الثالث فقد انغرس في الأرض ومنه جاء «الغريسة». وذُكر أيضاً أن حمر «فروة نمر» وكل نقطة فيها قبيلة أو فرع من فروعها. ü ثم يذهب المؤلف مسترسلاً في تفصيل فروع قبيلة الحمر ويناقش أصولها، والمجتمع الذي وفد من شتى بقاع السودان- كما يؤكد الاستاذ إبراهيم منعم منصور- في مقال له أورده الكاتب، حيث اتسعت دار حمر لتجمع في أرضها أكثر من 32 قبيلة من مختلف انحاء السودان ليصل سكانها إلى ما يفوق المليون وربع المليون نسمة، وصارت لكل منهم محكمة وإدارة (شرتاوية)، وتعايش كل هؤلاء الأقوام في تواد وتآلف وعِشرة منتجة.