بفرحة التحضيرات والاستعدادات بقرار الجلاء انشغل السودانيون من جميع أنحاء السودان بالتجهيز لحضور الاحتفالات، وبدأت الأقاليم في اختيار ممثليها للمشاركة في الاحتفال بقرار يوم الجلاء، إلا أنهم تفاجئوا بمن كان يريد إجهاض هذه الفرحة، وتعطيل قرار الجلاء الى أجل غير مسمى عبر التمرد الذي قام به الجنوبيون بمديريات جنوب السودان الثلاث، وكانت مدينة توريت مهد هذا التمرد الذي استهدف الشماليين، وارتكب في حقهم أبشع الجرائم دون سابق إنذار في لحظة غدر لم ينجُ منها حتى الطفل الرضيع، وقال ضابط جنوبي حينها يدعى (البينو) لبعض من ظل على قيد الحياة من الشماليين (تركناكم أحياء لتحدثوا التاريخ وتقصوا على أحفادكم ما صنعه الجنوبيون بكم في اغسطس عام 1955م) وهؤلاء الأحياء بالفعل تحدثوا عن هذه الأحداث المؤسفة . خدعة أخرى من الجنوبيين: سافر السيد مبارك زروق الى الجنوب ليشهد عملية تسليم المتمردين في توريت، وسرد عند عودته ماقام به الجنوبيون من خدعة وقال.. لقد هبطت بنا الطائرة في مدينة جوبا واستقليت طائرة استكشاف حلقت بي فوق مدينة توريت على مستوى قريب فرأيتها خاوية، وفي الليل تحرك القائد العام ومستشار الحاكم العام الى منتصف الطريق ليستقبلوا ممثلي المتمردين، ولتبدأ اجراءات التسلم التي تبدأ بحضور الضباط المتمردين تحت علمهم الأبيض علامة قبول خطة التسليم ومن ورائهم الجنود، فلم يظهر إلا ضابط واحد بعَلمه الأبيض، وذكر لهم أنه جاء ليستأذنهم في أن يعطي فرصة 24 ساعة ليقوم بجمع القوات المتفرقة لتسلم جميعها.. مما أدى الى تأخر زحف قوات دفاع السودان يوماً آخر الى أن دخلت توريت ووجدتها خاوية بعد أن تسلل المتمردون الى الغابات، وذهب معهم جميع سكانهم الجنوبيين، وأن الرسائل التي كان يتبادلها المتمردون مع الحاكم العام ورئيس الوزراء ما كانت إلا خدعة لكسب الوقت ليفر المتمردون الى الأدغال أو خارج الحدود.. أما الضابط الذي لعب الخدعة الكبرى وحمل الراية البيضاء لمقابلة القائد العام أمام مرسى جوبا، هرب ومن معه جميعاً ولم يبقَ منهم واحد ليستسلم. تقرير لجنة التحقيق الإداري: وقد كونت تلك اللجنة وفقاً لقانون لجان التحقيق لعام 1954م، وكانت مهمة اللجنة منحصرة في التحقيق الإداري عن الأساليب والحقائق التي أفضت إلى وقوع تلك الحوادث، والتي ترأسها السادة القاضي مستر قطران، والسيد خليفة محجوب مدير عام مشاريع الاستوائية، والزعيم لوليك لادو زعيم ليريا كعضو، كما طلبت أن يعين لها مستشارون في المسائل الحربية، ووقع الاختيار على السادة القائمقام محمد بك التجاني.. البمباشي علي حسين شرفي، ومن ثم قامت تلك اللجنة بزيارة المديريات الجنوبية الثلاث وعقدت جلساتها وتحقيقاتها في الأماكن التي وقعت فيها الأحداث.. وعقدت (53) جلسة علنية حيث عقدت في الخرطوم 23 جلسة، وفي جوبا 16 جلسة، وياي جلستان، ومريدي 3 جلسات، ويامبيو جلسة واحدة، وتوريت جلستان، وقرية جامبو جلسةواحدة، وملكال 3 جلسات، و واو جلستان.. كما قامت بزيارة أمادي، لوكا، أنزارا، كقلو، كتري، قيلو وكبويتا، وقد كشف التقرير المؤامرة حيث كانت الفرقة الجنوبية من قوة دفاع السودان تتكون على نظام الفرق، بمعنى أن الجنود يعملون عادة في نفس الجزء من القطر الذي يجندون فيه، وكان بالفرقة الجنوبية تسعة ضباط جنوبيون برتبة ملازم ثاني وأربعة وعشرون ضابطاً شمالياً معظمهم في رتب عالية.. ويبلغ عدد الفرقة 1770 ضابطاً وجندياً.. ورئاسة الفرقة الجنوبية في المديرية الاستوائية في مدينة توريت، وكان توزيع وحدات الفرقة في يوم18/8/1955م كما يلي: الاستوائية: توريت: البلك نمرة - 1 ناقصاً بلتونين البلك نمرة 2- ناقصاً بلتونين البلك نمرة 6- بما في ذلك المستجدين (بلك الأولاد) بلتون واحد من البلك نمرة 4 بلك الرئاسة: البلك نمرة 3 من سلاح الخدمة ناقصاً فصائل بلتون المهندسين للفرقة الجنوبية وكان هناك خمسة عشر ضابطاً شمالياً وثلاثة ضباط جنوبيون في توريت كبويتا: البلك نمرة 5 ناقصاً بلتونين ضابط شمالي واحد لويلي: بلتون واحد من البلك نمرة 5 جوبا: بلتون واحد من البلك نمرة 1 بلتون واحد من البلك نمرة 4 خمسة ضباط شماليون وضابطان جنوبيان ياي: بلتون واحد من البلك نمرة 1 ضابط شمالي واحد يامبيو: بلتونان من البلك نمرة 2 ضابط شمالي وضابط جنوبي انزارا: بلتون واحد من البلك نمرة 5 ضابط شمالي بحر الغزال: واو: البلك نمرة 3 أربعة ضباط شماليون أعالي النيل: ملكال: البلك نمرة 4 ناقصاً بلتونين ضابطان شماليان وكان البلك نمرة 5 من فرقة الهجانة بقيادة ثلاثة ضباط شماليين متواجداً في جوبا، ولم يتأثر رجال الفرقة الجنوبية بنشاط الأحزاب السياسية. ولكن كان بالفرقة شخصان لهما نشاط سياسي كبير وهما: 1. وكيل بلك أمين سترلينو ابويو 2. ملازم ثاني تفنق لادنقي وفي السادس من شهر أغسطس سنة 1955م أطلق وكيل بلك الأمين - سترلينو- بمدينة توريت نشاباً على مساعد وكيل البوستة الشمالي، ولكنه لم يصبه بل أصاب بجراح جندياً جنوبياً.. وقد اعترف أثناء التحقيق بأنه كان يقصد قائد الفرقة الجنوبية بالنيابة القائمقام طاهر بك عبد الرحمن، وعند تفتيش منزله عثر على وثائق كشفت الحقائق التالية: إن وكيل بلك الأمين- سترلينو- كان عضواً في حزب الأحرار الجنوبي، وكان على اتصال مستمر مع الكتبة الجنوبيين في جوبا الذين لهم نشاط سياسي.. وكان على علم بأن الجنود الشماليين سيصلون إلى جنوب السودان، وكان يظن أن الجنود الشماليين قادمون لقتل الجنوبيين، وقام بحملة دعاية بين كبار صف الضباط، وحرضهم على قتل ضباطهم. وقد وافقه على آرائه الملازم ثاني تفنق لادنقي، والملازم ثاني رينالدو لوليا.. كما تمكن من إرسال إشارات باللهجات المحلية تبين خطته للتمرد إلى باشجاويش حامية واو، وأيضاً إلى البلك نمرة 4 بملكال وكانت خطة وكيل بلك الأمين سترلينو هي قتل كل الضباط الشماليين، على أن يتم ذلك بمعاونة القوات الجنوبية في توريت، وعلى أن تنفذ الخطة في وقت واحد في كل الوحدات في الفرقة الجنوبية في المديريات الثلاث، وقد أرسل إشارة بلغة الأشولي إلى الملازم ثاني رينالدو لوليا (الذي كان بجوبا في يوم 4 أغسطس) طالباً منه إرسال بلتونين من الفرقة الجنوبية إلى منقلة ليطلقوا النار على وحدات الجيش الشمالية التي كانت في طريقها إلى جوبا بالباخرة، ويستولي على المطار والمعدية ورفض الملازم ثاني رينالدو في رده على إلاشارة أن يرسل بلتونا لمنقلة أو يستولى على المطار والمعدية ونصحه بأن يتريث. ... نواصل واتضح من الشهود الذين خضعوا للجنة أنه لم يكن من بين صف الضباط المتمردين من كان موافقاً على مؤامرته سترينو لقتل الضباط الشماليين.. وقد كان مغالياً في كراهيته للشماليين، لأنه عندما رفض صف الضباط أن ينفذوا مؤامرته استلف من جندي يدعي قيوفانيو قوسا ونشاباً، وعبثاً حاول أن يجد قائد الفرقة الجنوبية بالنيابة وعندئذ قرر أن يقتل أي شمالي يقع عليه بصره وعندما اكتشفت هذه المؤامرة كان قائد الفرقة الجنوبية يقضي إجازته بالخرطوم، وقد استدعي لتوريت في الحال وبارح الخرطوم إلى جوبا جواً في يوم 9/8/1955م. وبما أن المؤامرة شملت عدداً من صف الضباط في المديريات الجنوبية الثلاث، فإن القائمقام عروة بك القائد السابق لبلك واو والسيد داوود عبداللطيف مدير بحر الغزال مبارحاً الخرطوم على نفس الطائرة لاستئناف عملهما.. وفي اجتماع عقد بالمديرية بجوبا حضره مدير الاستوائية ونائبه، وقائد الفرقة الجنوبية ومدير بحر الغزال والقائمقام عروة بك، والقائمقام طاهر بك عبدالرحمن، وقمندان بوليس الاستوئية، اتخذت القرارات الآتية: 1. أرسلت برقية مستعجلة للخرطوم لضرورة احضار قوات شمالية للجنوب. 2. إلى أن تكتمل الاستعدادات لا يلقى القبض على رجال الجيش المشتركين في المؤامرة على أن يرسل باشجاويشية واو وملكال وردت اسماؤهم في الوثائق في مهمة مصطنعة إلى جوبا، ليكونوا تحت المراقبة الدقيقة وعلى أن تجرى تحريات أكثر من رجال القوات لسبر غور المؤامرة. 3. على أن تسير السلطات المدنية في القاء القبض على المدنيين المهتمين في الاشتراك في مؤامرة التمرد. وبعد انتهاء الاجتماع توجه مدير بحر الغزال والقائمقام عروة بك إلى واو، كما سافر إلى توريت قائد الفرقة الجنوبية، أرسل الباشجاويش صموئيل من البلك نمرة 3 والباشجاويش ميزان من البلك نمرة 4 إلى جوبا بناء على تعليمات القائد، وفي يوم 8 أغسطس، وبعد أن اتضح أن اثنين من المدنيين مشتركان في المؤامرة، ابتدأ كبير مفتشي البوليس بجوبا تحرياته وأمر بالقاء القبض على اثنين من الكتبة، ثم سافر إلى توريت ليواصل تحرياته، وفي صباح يوم 9 أغسطس احتشد جمع يتراوح عدده بين 300 و 400 شخص بالقرب من سجن جوبا، وطالبوا بأن يطلق سراح المسجونين في الحال لأنهما (سجنا دون سبب) وعندما حانت الساعة الثامنة ازداد عددهم إلى ما بين 600 و 800 شخص.. وعندئذ طلب مفتش مركز جوبا (السيد محمد عبد الكريم) من اثنين من كبار الجنوبيين هما السيد ياسيا لوكيري عضو مجلس الشيوخ، والزعيم لوليك لادو (العضو المحترم بهذه اللجنة) أن يذهبا ويخبرا الحشد بأن هذين الموظفين قد سجنا بناء على أوامر كبير مفتشي البوليس، وأنهما سيظلان في السجن إلى أن يكمل كبير مفتشي البوليس تحرياته بتوريت، وأن عليهم أن ينفضوا ويذهبوا لمنازلهم، وقد أبلغت هذه الرسالة إليهم غير أن المحتشدين طالبوا بإطلاق سراح الموظفين بضمان أو أن يحجزا في منزليهما، وقد أبلغت هذه الرسالة لمفتش المركز، وبعد ذلك طلب مفتش المركز من الوسيطين أن يخبرا الناس بأن الضمان مسموح به في حالة الجرائم الصغيرة وليس في حالة الجرائم الكبيرة، كما هو الحال مع هذين المتهمين، وعليه لابد أن يظلا في السجن إلى أن يعود الي أفندي لوب. وقد طالب الحشد بعد ذلك بإرسال المتهمين في الحال إلى توريت للتحقيق معهما، وقد قبل مفتش المركز هذا العرض، ولكن حدث فيما بعد سوء تفاهم بين الوسيطين والحشد وانتخب المتجمهرون وفداً مكوناً من أربعة أشخاص ليتحدثوا مع مفتش المركز. وقد كرر مفتش المركز للوفد أنه راغب في إرسال المتهمين لتوريت، واترجاهم مرة ثانية أن يطلبوا من الحشد أن يتفرق.، وقد أبلغ هذا الرجاء ولكن المتجمهرين رفضوا الاتفاق. وأصبح الحشد أكثر تحدياً وابتدأوا في الزحف نحو المركز، وعندها خرج المفتش من المركز وأنذر الجمهور بأنه سيأمر البوليس باستعمال الغاز المسيل للدموع إذا لم يتفرقوا بسلام. فازداد هياج الجمهور وجرى قليل منهم نحو المفتش وهاجموه، فتخلص منهم وأمر البوليس باستعمال الغاز المسيل للدموع.. ففُجرت عدة قنابل وتفرق الحشد بسرعة، ولم يلق القبض على أي شخص، لأن المفتش قرر أن يعفو عنهم وتناسى الحادث.. ووصلت أول دفعة من القوات الشمالية جوبا عن طريق الجو في يوم 10 أغسطس.. وأخذ كثير من المدنيين عوائلهم وغادروا جوبا ظناً منهم أن القوات الشمالية آتية لقتلهم وفي 18/8/1955م بدأ التمرد بمدينة توريت، و كان الهجوم موجهاً على أرواح وممتلكات الشماليين دون سواهم، وارتكبت جرائم القتل وحرق المنازل والممتلكات والنهب والسلب. وقد اشترك في ارتكاب هذه الجرائم الجنود، ورجال البوليس، والسجانة، والأهالي الجنوبيون، واشتدت الاضطرابات خطورة في المديرية الاستوائية، وتأثرت بها كل المدن والقرى وسادت حالة من الفوضى التامة، وعدم النظام الشامل لمدة أربعة عشر يوماً.. فتعطلت الخدمات العامة وقطعت طرق المواصلات، وأغلقت دواوين الحكومة وفي يوم 20 أغسطس أعلنت حالة الطوارئ في المديريات الجنوبية الثلاث.