٭ بين مؤيد ومعارض.. لا حديث لرموز المؤتمر الوطني هذه الأيام، في أعقاب مؤتمراتهم الولائية ومؤتمرهم العام الرابع إلا «الاكتشاف الطازج» بأن مساعيهم لاقامة حكم لامركزي، إتحادي أو فيدرالي انتهى إلى إحياء القبلية والعصبيات العنصرية والشللية ومراكز القوى الجهوية.. هو بالنسبة لهم اكتشاف طازج، بينما كان السودانيون، نخبتهم وعامتهم ، قد وصلوا إلى هذه النتيجة، بل تنبأوا بها مسبقاً، وهم يشاهدون عبر التلفاز وفود المبايعين من وجهاء القبائل يرفعون عرائضهم المُذهّبة إلى مقام الرئاسة وفرسان القبائل يستعرضون قوتهم على صهوات الجياد ونجائب الإبل معلنين انضوائهم تحت راية «الوطني» مستظلين «بشجرته» وارفة الظلال.. وكان قادة «الوطني» يستقبلونهم مستبشرين، معبرين عن فرحتهم بالعرضة والصقرية والزغاريد، المصحوبة بالتهليل والتكبير.. ٭ منظرٌ ألفه الناس في فعاليات الحزب السياسية وحشوده الجماهيرية.. وظن أهل «الوطني» إنه هكذا تبنى الأحزاب وهكذا تقاد الشعوب من أجل البناء والتنمية، وما دروا أن «عروض القوة» تلك التي يقودها وجهاء القبائل وزعماؤها هي عادة قديمة مترسخة، وانها تصب بآخر النهار في حساب الناظر والشيخ وقبيلته وليس في خزائن الحكومة أو الدولة أو الحزب الحاكم.. انها تقول «للحزب الحاكم»- أي حزب وصل للسلطة- لا يعنينا كيف وصلت ولا ماذا ستفعل بالآخرين، من مؤيديك أو معارضيك.. ما يهمنا أن تحقق مصالح القبيلة وأن تنصرها في صراعها ضد القبائل المنافسة وأن تحلها مكاناً عليا فوق الآخرين. ٭ أما لسان الحزب الحاكم، فكان يقول لهم، نحن معكم ونحن بكم على أعدائنا ومعارضينا، نستقوى بكم بغض النظر عن ما تفهمون وما تعتقدون طالما اعلنتم البيعة ورضيتم بتفيئ ظل الشجرة الوريفة.. لا يهمه إن اقتتل مبايعوه غداً مع القبيلة المجاورة التي تنازعها الأرض والكلأ وموارد المياه فيسقط من القبيلتين المبايعتين مئات القتلى والجرحى، وتتناقل الصحافة وأجهزة الاعلام المرئية والمسموعة اخبار «الإفناء المتبادل».. فتتشكل الوفود من نخب القبيلتين المتقاتلتين المستوطنة بالعاصمة وتتوجه إلى مضارب القبائل بمجالس «الجودية» و«تطبطب» على زعماء القوم هناك، ليهدأ النزاع إلى حين قبل أن ينفجر مجدداً وعلى نحو مفاجيء. ٭ «الوطني» وهو يعقد مؤتمراته القاعدية، اكتشف أن معظم من اعتقد انهم «قواعده ووحداته الأساسية»، لا صلة لهم بهذا التصور «التنظيمي» لحزب حديث.. بل أن من اجتمعوا قبالة منصة الوفود الذاهبة من المركز لمراقبة تلك المؤتمرات أو «اللمات»- إذا شئنا الدقة- ما هم إلا جماعات متنافرة، تفتقر إلا الوحدة الفكرية والتنظيمية والروح الرفاقية، بل جاء كل فريق وفي ذهنه أن يستحوذ على المكاسب وأن يقدم للولاية والمناصب الإدارية العليا والتشريعية من يخدم قبيلته أو جماعته أو شلته أو بيته داخل القبيلة.. فاكتشف «الوطني» أنه «لا غزا ولا شاف الغزا»، وأنه يعيد اختراع «عجلة الاتحاد الاشتراكي» المايوي ورئيسه نميري غفر الله له، الذي برع في التجييش والتحشيد والمبايعات الصورية. ٭ لن يفوتنا في هذا المقام، ما دام «الكلام جاب الكلام» ان نَذكُر، ونُذكّر من نسى، أن بين أهم اجندات الصراع الذي جرى بين «القصر والمنشية» لدى مفاصلة رمضان الشهيرة 9991، هو اصرار الشيخ الترابي أمين المؤتمر الوطني ورئيس البرلمان حينها على أن يتم «انتخاب» ولاة الولايات وليس تعيينهم، بينما تمترس «حراس القصر» مساندي الرئيس على رفض الانتخاب، الذي رأوا حينها أنه سيصب في مصلحة الترابي وفريقه.. وعندما وضعت المفاصلة أوزارها وانجلى غبارها، وتمكن القوم من مفاصل الدولة رأوا أن لا مانع من اعتماد «الانتخاب» وسيلة لاختيار حكام الولايات، وكان لهم ما أرادوا في ظل التشريعات المستحدثة عبر برلمان موالٍ لهم بالكامل تقريباً. ٭ الآن، وبعد هذا «الاكتشاف العظيم» من جانب الوطني بأن الانتخابات تثير العصبيات القبلية والشلليات المصلحية، يظل السؤال الذي تصدر عنوان هذه «الاضاءة» قائماً، هل هي «ردة» عن الحكم الاتحادي أو الفيدرالي، الذي تبناه القوم وغنوا له بملء حناجرهم؟ وهل يستقيم أن يكون حكماً اتحادياً أو فيدرالياً ويتم «تعيين» حكامه من رئاسة الدولة في المركز وليس انتخابهم ديمقراطياً؟ أليس في ذلك تناقضاً واضحاً وفاضحاً؟.. أم أن القوم قد صحوا فجأة، وانتبهوا إلى أنه في ظروف السودان، والروح القبلية و النفعية المستشرية أن الذهاب إلى الحكم اللا مركزي «الاتحادي» بهذه العجلة وبلا تمهيد يعالج المشكلات الثقافية المتصلة بالنسيج الاجتماعي وغياب «الوحدة الوطنية» الحقيقية التي نادى بها قدامى المتعلمين منذ عهد الاستعمار و«مؤتمر الخريجين»، إن هذا الذهاب كان قفزة في الظلام يجب مراجعتها.. فالسودان بمكوناته القبلية، التي لا تخلو من مزاج عنصري، ظل على ما هو عليه منذ السلطنة الزرقاء، مما دفع مشايخ القبائل الغاضبين حينها إلى اللجوء لمحمد علي باشا واستجدائه لغزو السودان من أجل وضع حد للفوضى.. ذلك لأن تلك «السلطنة» فشلت في توحيد الأمة وتأسيس دولة وطنية موحدة، كما يقول د. أحمد سيد أحمد في كتابه الذي استعرضنا جزء مقدراً منه الاسبوع الماضي. ٭ كل ما نتمناه أن يكون الحزب الحاكم قد دهمته «صحوة» حميدة واكتشف أن تقسيم البلاد إلى «ولايات افتراضية» لا تملك من مقومات الإدارة الذاتية والجدوى التنموية أي نصيب.. ولايات يتزايد عددها كل حين وكل ما رأت قبيلة أو حلف قبلي أنه يستحق «ولاية» هو خطأ بل خطيئة تضرب في نسيج أمة لا تزال في طور التشكل.. بينما التقسيمات الإدارية التي ورثناها من الاستعمار كانت ولا زالت اكثر جدوى من حيث الاقتصاد والموارد التنموية وأكثر نفعاً في ترسيخ الوحدة الوطنية ولتأسيس حكم لا مركزي يكون في خدمة «الأمة» وليس في خدمة هذه القبيلة أو تلك أو هذا الحزب أو ذاك. ٭ عودوا إلى التقسيم الإداري الطبيعي والمنطقي الموروث منذ عهد الاستعمار وتخلوا عن محاولة اكتشاف العجلة يرحمكم الله.