6. عقلانية مركبة : ولذا فالحوار الفعال يحتاج إلى الاشتغال بعقلانية جديدة ذات رؤية متفتحة لا مغلقة ، وصيغ مرنة لا جامدة ، وبنية مركبة ، لا بسيطة ومنهج تعددي لا آحادي ، ونظام متحرك لا ثابت ، خاصة لمن يلج في عصر تبدو فيه المعطيات في حركة متواصلة وسيلان دائم . وهكذا فالحوار المثمر لا يدار بعقل اختزالي تبسيطي ، بل بفكر مركب ، يرى صاحبه دوماً الوجه الآخر للمسائل ، بقدر ما يكشف لدى الآخر وجهاً كان يستبعده ، أو يرى من نفسه وجهاً كان غافلاً عنه . بهذا المعنى فالحلول التي يبحث عنها المتحاورون ، لا تتم بمنطق السجال والنفي أو المحافظة والعزلة ، وإنما هي ثمرة تخطِ وتجاوز على سبيل التركيب وإعادة البناء ، سواء في ما يخص العلاقة بالمختلف والآخر في المكان أو بالتراث والذاكرة في الزمان. 7. البُعد المتعدد : وكل ذلك يُبنى على وعي المرء لهويته ، لا بمنطق أحادي ، كأصل ثابت أو حقيقة منجزة أو بداهة مسبقة أو معنى وحيد . مثل هذا النمط من الفهم والوعي ينسف جسور التواصل والتفاهم منذ البداية ، لأن الحوار الممكن والمثمر هو الذي يقنع أصحابه بأنهم ذوو هويات مركبة وملتبسة ، بقدر ما هي متعددة الوجوه والطور أو البُعد ومن يرى فى نفسه كذلك هو القادر على مد الجسور بينه وبين الغير ، بقدر ما يرى إلى الآخر بوصفه وجهنا الخفي ، أو ماكناه ، أو ما نتمنى أن نكونه . 8. لغة الخلق : ولا ننسى أن الحوار لا يثمر بين طرفين غير متكافئين ، ضعيف وقوي ، أو عاجز وقادر ، أو كسول ومبدع ، فلا يكفي الموقف الخلقي لكي نتحاور ، إنما يحتاج إلى شرطه الوجودي ، بما يعنيه ذلك من القدرة على الخَلق والإنتاج ، بالأعمال الخارقة والمبادرات الفذة ، أو الإجراءات الفعالة ، من هنا فالحوار الناجح هو الذي يدار بلغة الخَلق ، لما تحتاج إليه هذه الشراكة أو صناعة الحياة ، من المجالات واللغات والمساحات والأسواق . ومن لا يتقن لغة الخَلق والتحول ، هو غير قادر على إدارة حوار بصورة متكافئة وفعالة ( أي الخيال الحلاق والقدرة على ابتكار مجالات وصيغ وقواعد جديدة لإدارة العمل الوطني والسياسي ، فضلاً عن التمتع بقدرِ من الاستقلالية في التفكير والتقرير) . 9. النموذج الفاعل : وأخيراً إن إدارة الحوار والاهتمام بقضية العيش معاً ، أمراً لا يقوم به من يفكر أو يعمل بعقل ديني أو قومي اصطفائي أو فاشي ولا بعقل إيديولوجي نخبوي أو مركزي ، ومن باب أولى أن لا يقوم به من يفكر أو يعمل بمنطق الاحتكار والمصادرة أو الاستئثار للهيمنة ، سواء تعلق الأمر بالثروة أو المعرفة أو السلطة من هنا لا ينتهج في إدارة الحوار لا الداعية ، ولا المثقف القومي ، ولا المنظر اليساري ولا الإستراتيجي العسكري ، كما هي نماذجه المعروفة ، ممن ينظرون على بُعد بصورة فاشلة ، أو بخطوات لحروب مدمرة ، وإنما هو يحتاج إلى نموذج جديد ، من الفاعلين الخلاقين ، العابرين للمجتمعات والثقافات ، أو للطوائف والجماعات المختلفة ، وسواهم ، من الذين يمارسون هوياتهم بأبعادها المتعددة ، المحلية والإقليمية والكوكبية ، بقدر ما يفكرون ويعملون بعقل تواصلي ، أفقي ووسطي . خلاصة القول : من يفكر بعقلية امتلاك الحقيقة يعمل على انتهاك الحقوق والإساءة إلى الآخر .ومن يفكر بعقل ثبوتي جامد ، مؤدى تفكيره أن يتقهقر إلى الوراء لكي تداهمه الأحداث وتهمشه التطورات . ومن يفكر بعقلية أصولية اصطفائية ، يؤول به التفكير إلى الاستئصال الرمزي أو المادي للآخر . ومن يعمل بمنطق النفي ، الضد ، يتواطأ مع ضده على تهديد السلام وتخريب العمران البشري كما تشهد حروب الأفكار والأسماء بين الأصوليات المتحاربة على المسرح العالمي . مما يعني أننا لسنا ضحايا بعضنا البعض ، قدر ما نحن ضحايا مشاريعنا الفاشلة ودعواتنا المستحيلة أو إستراتيجياتنا القاتلة . وهكذا لا مهرب من الشراكة في كلا الحالين ، سلباً أو إيجاباً ، على هذا الوجه أو ذاك ، على سبيل التخريب والتدمير أو البناء والعمران . من هنا لا تجدي في هذا الزمن الرقمي ، المعولم والكوكبي، إدارة الشأن البشري والعالمي، بالعدة الفكرية الحديثة المستهلكة ولا العودة إلى لغة العصور الوسطى لكي تصبح الآية معكوسة : إنا وجدنا آباءنا على شريعة ونحن على آثارهم لضالون أو مفسدون . فالخروج من المأزق يحتاج إلى تجديد أشكال المصداقية والمشروعية ، والمعرفية والسياسية والخلقية ، سواء من حيث الرؤية والوجهة ، أو المصطلح والمفهوم ، أو الموقف والمنطق أو الطريقة والمعاملة ، وذلك على النحو الذي يفتح آفاقاً جديدة أمام العمل الحضاري .باختصار القضية هي أن لا نمارس الحوار كمحاكم للإدانة و كأفخاخ ننصبها للأخر كي نقع فيها ، أو أن نقع أسرى عقدة الدفاع عن الذات بصورة مدمرة للجميع ، وإنما القضية هي أن نعرف كيف ندير حواراً ناجحاً أو أن نتمرس بالمداولة العقلانية المنتجة للصيغ المبتكرة أو أن نغير فيما نتحاور ونتشاور ، لكي ننخرط في بناء عالم مشترك يتيح التعايش والتبادل على أسس حضارية وفي أطر وطنية ، بمنطق علائقي ، وسطي ، تواصلي ، سلمي .. من غير ذلك لن نحصد إلا المساوي والمخاطر والكوارث .