مساحة السودان الضخمة التى تبلغ المليون من الأميال المربعة، إضافة إلى موقعه الجغرافي الممتاز الذى مكنه من إقامة حضارات موغلة في التاريخ الإنساني، وكذلك اتصاله بالحضارات الأخرى المجاورة، وتلك التى وصلت تأثيراتها وإفرازاتها إليه من الشمال عبر مصر، ومن الشرق عبر البحر الأحمر والتنوع الكبير في أصول سكانه ولغاتهم وتقاليدهم وعاداتهم وعقائدهم وأعراقهم وألوانهم كل ذلك جعل من السودان بوتقة ضخمة للانصهار والتمازج والتواصل.. وحوالي منتصف القرن السادس الميلادي تم الاعتراف رسمياً بالمسيحية كديانة للدولة من مملكة النوبة المردية بشمال السودان. وبعد ظهور الإسلام وفتح مصر توجهت سرية عام 641م في عهد سيدنا عمر بن الخطاب وقد أرسلها عمرو بن العاص بقيادة نافع بن عقبة الفهري، نحو النوبة ولكنها لم تتجاوز الشلال الثاني وعادت تحت ضغط المقاومة العنيفة التى واجهتها، وعلى عهد الخليفة عثمان بن عفان سار عبد الله بن سعد بن أبي سرح على رأس جيش إلى النوبة وفى مدينة دنقلا دارت معركة تكبد فيها المسلمون خسائر فادحة، ولكن توصل الطرفان في النهاية إلى اتفاقية عرفت باتفاقية البقط وذلك عام 31ه (652م)، وأدت الاتفاقية إلي هجرة عربية واسعة إلى السودان كانت نتيجتها تحول دولة المقرة النوبية إلى دولة إسلامية. أما المسيحية المحدثة في السودان فقد دخلت البلاد في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي مع المبشرين الذين بدأ عملهم في الجنوب، ثم توقفت في عهد المهدية، واستئونف مرة أخرى في عهد الاستعمار الثاني، وكما يقول الراحل البروفيسور عون الشريف قاسم فى دراسة له حول تاريخ الأديان في السودان:(( من الواضح ان التسامع الديني الذى هو سمة أهل السودان جميعاً في الشمال مثل الجنوب هو الذي فرض معياره على الجميع فان عددا كبيراً من الجنوبيين مسلمون، وعددا كبيرا مسيحيون، ولكن الأغلبية ليست بمسيحية ولا بمسلمة، لكل منهم ديانته ونظامه الروحي الذى ينظم حياته الاجتماعية والثقافية، المعظم القبائل الكبرى في الجنوب تؤمن بذات علوية تنظيم الكون والحياة)). ومن المناظر التى تدهش الزوار الذين يحطون رحالهم بالخرطوم هو تجاور الكنائس والمساجد، وذلك ناتج عن السموم التى تبثها بعض وسائل الدعاية والإعلام الغربية التى تسعى لصياغة مفهوم ثابت حول الإسلام بصورة كأنه دين لا يحتمل التعايش مع دين آخر. ومن المؤكد أيضا ان غير السوداني سيدهش لوجود عدد هائل من العائلات التى تضم داخلها المسلم والمسيحي والارواحي، وتختلط داخلها أسماء محمد وبطرس وجون ودينق.. الخ. وفى المناسبات الدينية تجد كل السودان محتفلاً بالمناسبة، فمن الطبيعي ان يقيم مسيحي وليمة إفطار رمضانية لمعارفه من المسلمين، وعادة يشارك المسيحيون المسلمين احتفالاتهم بعيد الفطر والأضحى والمولد النبوي، بينما يحتفل المسلمون بعيد ميلاد المسيح (الكريسماس) وغيره مثل عيد القيامة، ان تعايش الأديان في السودان ليس مجرد ظاهرة عابرة تقوم على المجاملة ولكن كيمياء الشخصية السودانية جعلت من هذا التعايش أمراً حتمياً ناجما عن التسامح الذى أصبح طبيعة ثانية لساكن السودان، ولذلك لم يشهد تاريخه حروباً دينية، وعندما صدرت قوانين الشريعة الإسلامية في سبتمبر 1983م استثنى الجنوب من التطبيق، وكذلك استثنيت القوانين الإسلامية التى صدرت في عهد الإنقاذ الجنوب من التطبيق بإعلانها وتطبيقها للحكم الفدرالي نظاماً للإدارة في السودان جعل لكافة الولايات بالجنوب والشمال الحق في تحقيق خصوصيتها القانونية واستثنت الولايات الجنوبية من تطبيق أحكام قوانين الشريعة الإسلامية. ومن اهم محطات اتفاقية الخرطوم للسلام التى تم توقيعها هو انشاء مفوضية خاصة تهتم بشئون غير المسلمين .. وهذا هو السودان.