قلنا في السلسلة السابقة إن دنقلا النوبية استطاعت أن تصمد أمام أعاصير المثاقفة والضغوطات السياسية التي اشتدت عليها منذ القرن الرابع عشر، واستنتجنا هنالك الآتي: إخراج دنقلا من المنظومة النوبية محاولة يائسة.. - التصوف الإسلامي السوداني بضاعة نوبية من تلاقي التراث النوبي مع الثقافة الإسلامية «النخيل والضريح» . -المحاور الرئيسية للهوية الدنقلاوية «النوبية» قائمة على اللغة والثقافة وليس على العرق والقبلية! - كيف صمدت اللغة النوبية الدنقلاوية أمام الهجمة الثقافية السياسية الشرسة للعروبة حتى غدت «العربية» للدين والسياسة، وأصبحت اللغة النوبية «الأشكر» للزراعة والوجدان الخاص. - صلابة الكيان النفسي للدنقلاوي تشرب من هذا التلاقح الخلاق !! -القابلية للتدين كانت موجودة قبل دخول الإسلام على شكل ثقافة الكهنة والرهبان، وهي التي أنتجت في النهاية مدارس سوار الذهب وخلاوي الركابية ومراكز التصوف التي قادت التنوير الديني في السودان. -عندما أفرط أحفاد الشيوخ في التشبث بالعربية على حساب الدنقلاوية، واجهتهم مقاومة ثقافية شرسة على إثرها هاجروا لأصقاع السودان البعيدة!! -الثقافة النوبية قاومت حتى اضطرت الخلاوي إلى وضع مصطلحات نوبية لنشر الدين، حتى الأسماء تغيرت من عبد الله إلى نقد الله ومن ً«الشيخ» إلى «ساتي» - العجيب بعد كل هذاأن يأتي أحد المهرولين إلى الجزيرة العربية ليقول: إن التصوف جاء مع علماء الخارج!! والأعجب أن يأتي أبناء الوافدين إلى «أحواض» دنقلا ليأخذوا دنقلا بعيداً عن المنظومة النوبية. - قامت بكل ذلك مستندة على خصوصيتها التاريخية، وهي نتاج عبقرية مكانية بقيت مع الزمن، وبالخصوصية نعني قدرة المكان في عملية استيعاب الوافد وصياغته طبقاً لمتطلبات المزاج المحلي! - نتائج هذا التلاقح ترك الآن نسيجاً اجتماعياً خلاقاً من نوبة، ونوبة مستعربة، وعرب مستنوبة، لهذا ليس غريباً أن نسمع أصوات متباينة تعبر عن هذه التيارات التي تمور في قاع المجتمع الدنقلاوي، وهي ظاهرة ثقافية صحيّة! في هذه الحلقة والتي تليها سنقف على ثلاثة نماذج من هذه الأصوات: صوت الأستاذ طاهر ساتي والدكتور عوض أحمد حسين شبه، ورؤية الشاعر محمود خليل. نقف مع هؤلاء ونترك الأصوات الصريحة الإنتماء للثقافة النوبية لعنوان آخر، أمثال: سيد علي الشاعر الذي روج للدنقلاوية في الأغنية السودانية منذ الستينيات، والأستاذ محمد شريف والباحث دمباوي وغيرهم من الأساتذة الأجلاء الذين يقودون الآن المجموعة الدنقلاوية. الصوت الأول: هذا التيار إقصائي يرفض التراث النوبي جملةً وتفصيلاً. أعلاهم صوتاً هو الكاتب الصحفي الطاهر ساتي. يدفن التراث في «مزبلة التاريخ» لحساب اللغة العربية والإنجليزية!! هذا الصوت في خلاصته «عقلية» دنقلاوية أنتجتها أجواء أمراض احتقار الذات في مجتمعات أحواض دنقلا، وأشعلها الفقر الذي يعشعش في المجتمع السوداني عامة، وفيه المنطقة النوبية، وقد ذهب هذا الشخص بعيداً في سب الجماهير النوبية التي تقاوم السدود، وقد أفضنا في تحليل خلفياته تحت عناوين شتى: أوهام الطاهر ساتي: «الهاربون من أصولهم» ساتي والشتاء التراثي - ساتي وخوجلي أسماء نوبية...ولأنه لا يستند على علم أو منطق مقبول سنكتفي هنا بما نشرناه وما سننشره إذا إقتضى الحال. - في مقابل هذا الهروب من التاريخ نجد استيعاباً وجدانياً خلاقاً لبلاد النوبة وتراثها، وذلك في تجربة الأستاذ الصحفي صلاح عووضة، ورغم أنه مستعرب اللسان ابن مدن، إلا أنه جمع في وجدانه بين «حلفا» التي تربى فيها و «دنقلا القولد» موطنه الأصلي، هذا الجرتق التراثي الفواح لا يحتاج إلى تحليل، ولكن سقناه هنا ً«كتحلية» تذوب مذاقات ساتي الحارقة. الصوت الثاني: أما التيار الثاني فيمثله صوت الدكتور عوض أحمد حسين شبة. أنشط أبناء دنقلا في دراسة التاريخ. صوته مستنير، لديه مؤلفات كلها في الشأن الدنقلاوي..دنقلا ودناقلة - الإسلام في دنقلة - اللغة النوبية - الدناقلة والشايقية خلفاء المقرة.. تميز على غيره من النخبة بعملية تمرير المادة الأكاديمية في الذائقة الشعبية، هذا في تقديري أهم مراحل العمل الأكاديمي فائدة، إذ من السهل أن تكتب الدراسات، ولكن من الصعب تنزيلها في وعي الجمهور، ولكن لم تكن هذه المهمة سهلة على الدكتور لأن الكاتب وقع في «جاذبية» التراث الشفهي، لم يكن من السهل عليه أن يفلت من شرك المزاج الشعبي السائد في قاع المجتمع الدنقلاوي المستعرب في جنوبدنقلا واستعان بخبراته البحثية لتخريج تاريخ محكم لتاريخ الممالك النوبية، ولكن اضطر إلى المطالبة بسحب مصطلح «النوبي» ووضع «الدنقلاوي» بدلاً عنه!! معلوم أن الوقائع التاريخية التي لا تتغير بتغيير الأسماء هو عمل أشبه بتغيير اسم «حي كوبر» إلى حي «عمر المختار» هذا الخواجة وهو المؤسس الأول لهذا العمل الإبداعي لم يعد مرغوباً في زمن الشعارات الإسلامية.. ولكن لا يمكن شطب تاريخه وهل استطاعوا التخلص منه؟! - يطالب بتغيير اسم مملكة النوبة إلى «مملكة دنقلا» وتغيير اللغة النوبية إلى «اللغة الدنقلاوية» وكل ذلك بحجة أن مصطلح «النوبي» متعدد الدلالات. أما تثبيت مصطلح دنقلا فبحجة أنها بقيت عاصمة المملكة النوبية في فترة تاريخية!! - الحقيقة أن التعامل بعقلية الأرقام مع وقائع تاريخية حولها الكثير من الشكوك لن تؤدي إلى نتيجة علمية نافعة، المصطلحات الشاملة هي المطلوبة في مثل هذه الظروف، ففي التسمية القديمة مصطلح «بلاد النوبة» فيها معاني شاملة: الجغرافيا والتاريخ والثقافة والسلالات. وهناك إشكالية مزمنة في الأسماء التاريخية، لم يعد مفهوماً عندما نتحدث عن كرمة أو فرص أو البجراوية، هل هذه الأسماء المتداولة الآن: هي الأسماء التاريخية الحقيقية أم أنها أسماء أطلقت مؤخراً على الأماكن التي تمت فيها الحفريات الحديثة؟! - هل يجوز أن تقدم شهادة أوثق مما قدمه أناس تاريخيون كانوا أقرب للحدث. أمثال الرحالة والمؤرخين كالمغريزي أو ابن أبي سرح الذي أطلق على الحاكم لقب ملك النوبة. لم يقل ملك دنقلا .. ولا يفيد الكاتب في شيء إنكار وصول ابن أبي سرح إلى دنقلا بل سحب من دنقلة أعمق الأدوار التاريخية الموثقة. حتى عندما كانت دنقلا حاضرة الدولة النوبية بعد القرن العاشر لم يطلقوا اسمها على المملكة التي اشتهرت ب «المقرة» ولا يعقل أن نحصر الأشمل الأوثق على الجزئي الأضيق، ونسمي مملكة نوبية ممتدة من جنوبأسوان ب «مملكة دنقلا»، وهذا يذكرنا بمن يفاخرون الآن بحضارة أمدرمان كأنها منطقة معزولة في السودان. - الغريب أن الحجج التي ساقها الكاتب هي نفسها التي تضعف اقتراحاته. واوضح أن الدكتور متأثراً بثقافة المجالس الخاصة؛ ولإنزال هذا المزاج الشعبي السائد الآن في جنوب ًً«دنقلة» وثقافة الأحواض على الوقائع التاريخية، وضع الكاتب فواصل خفية بين الدناقلة والنوبيين ! وربما هو نفسه لم يستطع أن يفك شفرة التعريف الذي أراده: بعد «تجهيز» دنقلا على عجل طبقاً للصورة «المطلوبة» دفع بها في تحالف جديد مع الشايقية، واعتبر أن أصحاب هذا «الاتحاد الجديد» هم خلفاء دولة «المقرة» في الحلقة القادمة نبحث مع دكتور شبة: هل استطاع «الدناقلة والشايقية» تكوين دولة تملأ الفراغ بعد انهيار العرش النوبي؟؟ بعيداً عن وصاية مملكة الفونج، لكي نقول إن هناك خلفاء لدولة المقرة؟!