الأمر يبدو مربكاً مهما افرطنا في حسن النية.. ثم أن المقام نفسه لا يستفيد من عنصر حسن النية، لأنه مقام رئاسي ومعني بإحكام الأمور استراتيجياً.. ثم أنه حين اتجهت الأنظار عالمياً نحو التفكير المنتج كأساس للتخطيط كان القصد تجاوز الصدف والمربكات في بناء الأمم، بعد أن حل زمان يسمى عصر ثورة المعلومات..المعلومات أصبحت هي الحل لأنها وسيلة للتنبوء المحكم والتخطيط الفعال للنجاة من تبسيط الأمور والانسياق مع مزالق الغرق في (شبر موية) والناس يتفرجون!. دعك من مثل هذا(المشهد).. فنحن لا ندري لماذا حدد هذا اليوم بالذات لانعقاد المجلس القومي للتخطيط الاستراتيجي ولماذا الغي؟.. معلوم أن يوم نهاية الاسبوع لا يصلح (عادة) لعقد المؤتمرات ناهيك أن يكون عطلة رسمية أو لامسته الأقدار.. ومع ذلك نقول إنه وارد أن يكون مجلس مختص بالتخطيط الاستراتيجي قد أراد تغيير هذا النمط في التعامل مع أيام الاسبوع بإشاعة ثقافة تكافح كثرة العطلات، وتحترم الزمن المتاح وتكبح الهدر في موارد البلاد. هذا عشم قومي في أن يعيدنا المجلس لصوابنا فلا نغ رق في(شبر موية) كما نبدو أحياناً من مشهد أفعالنا وقراراتنا المتراجعة والعالم حولنا يتطور.. أي أن يعين المجلس البلاد على وقف الهدر في الموارد والزمن أساس نجاح الخطط.. هذا ما جعلني اتابع أعمال المجلس، عضويته وموعد انعقاده والإرباك الذي صادف خاصرة التيقن.. هل اكتشف أحدهم فجأة أن اليوم المحدد هذا هو بداية العام الهجري؟.. أن رئاسة الجمهورية التي يتبع لها المجلس بادرت بالتنويه بتأجيل الانعقاد.. الدولة أدرى طبعاً بأولوياتها وبروتوكولاتها وهي التي أقرت هذه العطلة واتخذتها نهجاً مباركاً للاستفادة من دروس الهجرة البليغة.. ألم تكن الهجرة بتفاصيلها وثمارها التي عمت البشرية مثالاً للتخطيط المحكم لنبادر فنجعل من الانعقاد احتفالاً بها؟. أياً كانت الاحتمالات فإننا نعول على انعقاد مجلس مهمته استراتيجية مقدرين اسهاماته السابقة والمرجوة لبث العافية في مفاصل الدولة، وهي تواجه تحديات العصر ولديها من فرص التميز ما لديها ومنه عقول بنيها.. إن ترتيبات الانعقاد تشكل عنواناً لإضافات مرجوة من المجلس متى حالفه التوفيق الذي يشفي الصدور بأن يهتبل فرصة تزامنه مع الحوار الوطني ومع فاتحة العام الهجري فيستوحي منهما ما يبشر أهل السودان بصلاح الحال كله، ويعين على تغيير للأحسن يهتدي بهجرة مباركة تهدي الى سلام فتنمية تنصف الجميع.. وأين للمجلس بمثال للتحضير الجيد إن لم يجده في مسار لحوار وطني مفتوح وبمثال للتخطيط المحكم إن لم تلهمه هجرة نبوية شريفة غيرت مجرى التاريخ؟.. إن دروس الهجرة جاءت هدية سخية للبشرية لتجعل الآمال العظام ممكنة ما دمنا نفكر استراتيجياً ونصمم على التنفيذ ونصطحب الأخيار.. لتكن دورة الانعقاد هذه هجرة الى الصواب الذي قوامه التخطيط. الدعوة تتسع لنعول على مؤسسات بها موارد بشرية مؤهلة تعتمد التخطيط المدروس لاستدعاء الفرص وتوظيفها للانفلات من الأزمات والمكايد.. فالتخطيط الاستراتيجي منظومة رائعة من المبادىء الجديدة في الإدارة تعول على إبداعات العنصر البشري المالك لناصية التكنولوجيا.. إنه يحتاج لعناصر تحترم الزمن، تفعل ما تقول، تحتكم لرؤي متكاملة وثقافة مشتركة تجعل الجميع يفكرون بعقلية جماعية مبتغاها المصلحة العليا للبلاد.. لذلك ينتظر من هذا المجلس أن يكرس جهوده لإشاعة (ثقافة التخطيط الاستراتيجي) بين الناس وفي الجامعات والمدارس، وليس لرجال الدولة فقط، وذلك ليصبح التفكير استراتيجياً أمراً (قومياً) فيتسنى لكل فرد الانتساب لعصر توفرت وسائطه وفرصه لتعينه فلا يحتار أمام المشاكل. هل بامكان المواطن الفرد أن يتعاطى مع التخطيط الاستراتيجي؟.. أنها مسألة تهمه على كل حال، وقد يكون طبع عليها من تلقاء بيئته وموروثها في الاعتماد على الذات، وترتيب الأولويات، ومواجهة الصعاب بالتشاور مع من حوله، وباغتنام الفرص المشروعة لزيادة انتاجه.. الجمهور في عصر المعلومات هو سيد الموقف كما تنبىء مشاركاته عبر الوسائط والمنابر، والأحرى أن يساعده المخططون ليدير نفسه ويشكل مع من حوله نواة المجتمع الذي يتقدم الدولة ويقودها على شرط حرية العمل والرأي والاختيار.. في هذا السياق تقفذ مناشدات أربع، الأولى تغيير نظام التعليم لانتاج خريجين قادرين على التفكير، والثانية تشجيع البحث العلمي في هذا المجال، ثالثا:ً كسب خانة في الدستور بين ركائز الدولة، ورابعاً: استمالة المواطن وتحفيزه للتجاوب مع التخطيط الاستراتيجي بمعناه الواقعي البسيط (المعلومات، التفكير، الشفافية، ربط القول بالعمل) في مواجهة معضلات حياته في عصر يتزايد فيه عدد السكان وتتناقص الموارد وتتسع حدة المنافسة، ويتعاظم في مقابل ذلك شأن العقل البشري الحر الخلوق المنتج. هذه سانحة لنحيي جهود العباقرة والمفكرين والمخططين حداة مستقبل البلاد، ونأمل أن ينعقد المجلس ويضرب المثل في تحضيراته ومردودها، فهو معني بتقديم الانموذج الذي يحتذى تفكيراً وتخطيطاً وتنفيذاً ومتابعة، لاسيما وأن تجارب التخطيط في بلادنا منذ الخطة العشرية في مطلع الستينيات ظلت في حاجة لمن يضرب المثل التزاماً بمعايير الزمن والمردود والقياس ومحاسبة المقصر، والحيلولة دون الإنزلاق (في شبر موية)!.